التواتر الشفوي: من "فاوست" إلى "داعش"

19 سبتمبر 2016
(مشهد من مسرحية "فاوست". تصوير: AKSARAN/ وكالة Gamma-Rapho)
+ الخط -

منذ أن تحوّل استخدام مواقع التواصل الاجتماعي إلى نشاطٍ يومي، ونحن نتلقى الأخبار الجديدة من خلال قراءتنا للمنشورات التي يشاركها الناس على هذه المواقع، فنقرأ الخبر ممزوجًا بالانطباعات الشخصية والانفعالات العاطفية. وأحيانًا تستفزّنا الانطباعات المختلفة لبعض النشطاء، وربّما الجدل الذي تثيره بعض الأخبار، فنبحث عن مصدر الخبر، أو بالأحرى، عن الخبر كما نُشِر في وكالات الأنباء الرسميّة التقليدية. وكثيرًا ما نتفاجأ ببساطة الخبر الذي تسبّب في موجة الجدل، ومن التهويل والتضخيم الذي أحدثه روّاد الفضاء الإلكتروني على صفحاتهم الشخصية.

تتميّز الأخبار التي يولّدها الأفراد، بوجود شحنةٍ وجدانيةٍ، تحرِّر الخبر من الجمود العاطفي الذي يسيطر على الإعلام التقليدي، الذي يدّعي الحيادية، وتنتج ظاهرة التعقيب على الحدث أو الخبر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نمطًا خاصًا من الإعلام، يُعرف باسم "السيلف ماس ميديا"، وهو يعني المحتوى الشخصي الجماهيري الذي يولّده الفرد عبر قناة الاتصال الخاصة به، ويوصِّل المعلومات لجمهور غير محدّد، وقد لاقى هذا النمط الإعلامي العشوائي قبولًا جماهيريًا، لدرجة أنه بات يُهدّد سطوة الإعلام التقليدي، الذي يستمدّ قوّته من رأس المال.


انهيار السرديّات
إن الإعلام التقليدي، الذي بدأ في العصر الحديث، مع اختراع الطباعة، كان يعطي السّلطة لأصحاب رؤوس الأموال والنفوذ السياسي، لتقديم الأخبار بالسياق الذي يلائم سياستهم، مع ادعاء توخّي معايير الموضوعية والحيادية والمصداقية في نقل الحدث، فكان الإعلام حادًا وصارمًا بطريقته في التعاطي مع الأخبار، لأنه جاء في أصله كردّة فعلٍ على الأساليب الإعلامية البدائية السابقة له، والتي تتمثّل في التواتر الشفهي. وتعاظم شأن الإعلام التقليدي وتطوّرت أدواته على امتداد العصر الحديث، إلى أن ساهمت المحطّات التلفزيونية التي يُطلق عليها "تلفزيون الواقع" بانهياره، وبعد أن تسنى للعالم متابعة حرب الخليج على قناة "سي إن إن" لحظةً بلحظة، وشهدت هذه الفترة انهيار السرديات الكبرى.

بعدها قامت الإذاعة نفسها سنة 1995 بإنشاء موقع إخباري على الإنترنت، والذي عُرف في ما بعد باسم "سي إن إن التفاعلي"، وبدأ عصر التدوين الحرّ وقتها، فتحرّر الإعلام من سطوة رؤوس الأموال، وأعطت وسائل التواصل الاجتماعي بعدها المزيد من الحرّية للأفراد المستقلين، فقضت على احتكار قنوات الاتصال، الذي مارسه الإعلام التقليدي، وأصبح كل فردٍ يُنتج المحتوى الذي يريده.


ثورة تقنية
وإذا ما قارنّا بين الأشكال الثلاثة للإعلام، فإن التواتر الشفهي، ونمط "السيلف ماس ميديا" يتقاطعان بتغلّب ذاتية مولّد المحتوى على موضوعية الحدث بشكلٍ واضح، بينما يدّعي الإعلام التقليدي الموضوعية، ويروّج لوجود حقيقة ثابتة في الواقع، ليدعم الأنساق السياسية التي يتبع لها، إلا أن هذا النمط الإعلامي الذي يدعم وجود سرديات كبرى ووقائع ومعطيات ثابتة، لم يصمد أمام الثورة التقنية، التي أتاحت وسائل الاتصال والإرسال للجميع، وأعادت للذاتية مكانتها، فالنزعة إلى الذاتية التي تعطي الهوامش دورًا في تشكيل الصورة والمحتوى، أكثر جاذبية بالنسبة للجمهور من المركزية الإعلامية التقليدية، التي تحتكر قنوات الاتصال، وتضع الجمهور في حالة التلقي السلبي.

وفي ظل زعزعة الهوامش للمركزية الإعلامية، لا تزال وسائل الإعلام التقليدية تحاول أن تحافظ على هيمنتها، فأغلب الوزارات ووكالات الأنباء حول العالم، أنشأت لنفسها صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، وتويتر، لمواكبة العصر والحفاظ على كيانها، ولا تزال أغلب هذه الصفحات تدّعي امتلاكها للموضوعية والمصداقية.

إلا أن المتلقي الراغب بالمشاركة في صناعة المحتوى لا يتوانى عن استخدام قنوات الإرسال العشوائية الخاصة به، للتعبير عن نزاهة هذه المراكز الإعلامية أو عدمها، كما يقوم بدعم الأخبار المنشورة أو نقضها من خلال طرح قصصٍ عايشها في الواقع، وهذا ساهم بخلق "أساطير" غريبة عن أفراد وجماعات بشرية مثل "داعش" في الألفية الجديدة، والتي تتشابه مع أساطير العصور الوسطى الشعبية، مثل "فاوست"، التي ولّدها التواتر الشفوي.