حظيت الثورة في مصر وتونس بالإشادة من دوائر عديدة في الوطن العربي وخارجه. وضخت أملاً للشعوب العربية، ودفعت بعضها للتظاهر ورفع رايات الاحتجاج لتحسين أوضاعه. حتى الدوائر النخبوية التي كانت قريبة من السلطة في البلدين لم تستطع مهاجمة الحراك الشعبي فور انتصاره وإزاحة الديكتاتورين حسني مبارك وزين العابدين بن علي، بل راح بعضها يظهر ما كان يخفيه من نقد للنظامين وأصبح كثير من الفلول في مصر والأزلام في تونس يتغنون بشباب الثورة، ويدافعون عن حق المجتمع في العيش بكرامة وتحقيق العدالة الاجتماعية. لم يقتصر الأمر على ذلك بل راح النظام السوري وأحزابه يتغنون بثورة مصر، وطالب معمر القذافي بأن يتولى السلطة في مصر الشباب ولا ينخدعوا بالأحزاب والديمقراطية.
خضعت العديد من الخطابات للثورة، وأثرت في توجهات نخب النظم ودوائر اتخاذ القرار ومراكز الدراسات، وكان الاقتصاد نقطة التقاء بين الجميع. هاجم هذا الخطاب المعلن السياسات الاقتصادية لنظامي مبارك وبن علي واعتبر أن الفساد قرين الاستبداد وأن تفكيك البنى الإنتاجية أو طرحها للبيع وارتهان القرار المصري والتونسي لإرادة خارجية كان أحد عوامل إسقاط النظامين.
النخب التي كانت تؤيد النظام في مصر وتونس ولم يسمح لها بحرية الحركة، رأت في الثورة فرصة للتحقق والتحرر واكتساب مساحات أكبر في المجال العام، فهللت للثورة وأعلنت نقدها لنظم هددت عروشها زحف الملايين. غيرت مشاهد الميادين خطاب هؤلاء ووجدوا في الثورة فرصة وأداة لتجديد النظام.
لا يختلف أي متابع لمسار النظامين المصري والتونسي وأغلب النظم العربية أنها المسؤولة عن أزمات الاقتصاد العربي الراهن. وأن السياسات الاقتصادية للنظم وظفت لخدمة قوى النهب والفساد. كذلك أنتجت تلك السياسات أزمات اجتماعية تتسم بقسوتها، وإن هذا التشكيل الاقتصادي والاجتماعي قبل الثورة دفع للتمرد. فالبطالة المرتفعة وأزمة خدمات السكن والصحة والتعليم وعدم تناسبه مع سوق العمل أنتج شباباً بلا مستقبل وأوطانا ضعيفة.
لكن الرهان على الثورة بدأ يتحول. قلّ عدد المتحلقين حولها مع فشل مسارات انتقال السلطة من النظم القديمة إلى نظم ما بعد الثورة، التي لم تحدث أي تغيير ملحوظ فيما يخص الواقع المعاش ... أسعار السلع والخدمات في ارتفاع مستمر والأجور في ظل التضخم تنخفض وإن كانت تزيد في حجمها. رجعت النخب إلى سابق عهدها، وسرعان ما تحلقت حول النظم الجديدة التي ستحقق لها حدا أدنى من الأمان. لم تعد الثورة أداة للتباهي أو الإشادة ولم تعد ترهب نخباً قديمة أو تجذب معجبين جددا. عادت كل فئة إلى دورها وخندقها ومصالحها الضيقة. لقد تبدد حلم التغيير، وعليها أن تقاتل بشراسة. نسيت الخطاب المرحب بالشباب والتغيير، وحل محله خطاب الإدانة، وتحول الاقتصاد الذي كان سبباً في الانتفاضات إلى ضحية للثورات ذاتها، وفق هذه النخب.
هذا التحول من الإشادة إلى الإدانة أقرب إلى تبرئة النظم التي حكمت سابقاً. إذ يلي خطاب تبرئة النخب واتهام الثورة، إعادة إنتاج سياسات نظم ما قبل الثورات. ويترابط القمع والاستبداد مع سياسات التقشف ويفرض الحصار على المجال العام ليصمت من يعاني من أوضاع شديدة القسوة. وارتفعت السجون بدلاً من المصانع. وزادت أسعار الخدمات وجاء من يبرر ارتفاعها. وأصبح التقشف "مجيداً"، والاقتراض "نجاحاً وإصلاحاً غاب طويلاً ولابد من إقراره"، وبدأت قرارات ارتفاع خدمات الطاقة توصف بأنها "شجاعة". وبيع الأصول والأراضي أضحى يسوّق تحت شعارات "زيادة الاستثمار".
لم يعد من تركة الثورة غير بصيص يرتبط بقوة الشعوب وقدرتها على مقاومة هذا الحصار المزدوج بقوة سلاح القمع وبفرض أزمات اقتصادية جديدة عليها. الأمل ما زال قائماً، فلا حل أمام أزمة السياسات الاقتصادية المتمددة إلا المطالبة بتغيير الأنماط المتبعة، وإعادة توزيع الثروة وإقرار العدالة الاجتماعية ومحاسبة الفاسدين... حينها ستخرج نخب أخرى عن صمتها وتعلن أنها كانت تمتلك نقداً للسياسات وللنظم الاقتصادية وكانت تعارض بعضها، سراً.
(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية)
خضعت العديد من الخطابات للثورة، وأثرت في توجهات نخب النظم ودوائر اتخاذ القرار ومراكز الدراسات، وكان الاقتصاد نقطة التقاء بين الجميع. هاجم هذا الخطاب المعلن السياسات الاقتصادية لنظامي مبارك وبن علي واعتبر أن الفساد قرين الاستبداد وأن تفكيك البنى الإنتاجية أو طرحها للبيع وارتهان القرار المصري والتونسي لإرادة خارجية كان أحد عوامل إسقاط النظامين.
النخب التي كانت تؤيد النظام في مصر وتونس ولم يسمح لها بحرية الحركة، رأت في الثورة فرصة للتحقق والتحرر واكتساب مساحات أكبر في المجال العام، فهللت للثورة وأعلنت نقدها لنظم هددت عروشها زحف الملايين. غيرت مشاهد الميادين خطاب هؤلاء ووجدوا في الثورة فرصة وأداة لتجديد النظام.
لا يختلف أي متابع لمسار النظامين المصري والتونسي وأغلب النظم العربية أنها المسؤولة عن أزمات الاقتصاد العربي الراهن. وأن السياسات الاقتصادية للنظم وظفت لخدمة قوى النهب والفساد. كذلك أنتجت تلك السياسات أزمات اجتماعية تتسم بقسوتها، وإن هذا التشكيل الاقتصادي والاجتماعي قبل الثورة دفع للتمرد. فالبطالة المرتفعة وأزمة خدمات السكن والصحة والتعليم وعدم تناسبه مع سوق العمل أنتج شباباً بلا مستقبل وأوطانا ضعيفة.
لكن الرهان على الثورة بدأ يتحول. قلّ عدد المتحلقين حولها مع فشل مسارات انتقال السلطة من النظم القديمة إلى نظم ما بعد الثورة، التي لم تحدث أي تغيير ملحوظ فيما يخص الواقع المعاش ... أسعار السلع والخدمات في ارتفاع مستمر والأجور في ظل التضخم تنخفض وإن كانت تزيد في حجمها. رجعت النخب إلى سابق عهدها، وسرعان ما تحلقت حول النظم الجديدة التي ستحقق لها حدا أدنى من الأمان. لم تعد الثورة أداة للتباهي أو الإشادة ولم تعد ترهب نخباً قديمة أو تجذب معجبين جددا. عادت كل فئة إلى دورها وخندقها ومصالحها الضيقة. لقد تبدد حلم التغيير، وعليها أن تقاتل بشراسة. نسيت الخطاب المرحب بالشباب والتغيير، وحل محله خطاب الإدانة، وتحول الاقتصاد الذي كان سبباً في الانتفاضات إلى ضحية للثورات ذاتها، وفق هذه النخب.
هذا التحول من الإشادة إلى الإدانة أقرب إلى تبرئة النظم التي حكمت سابقاً. إذ يلي خطاب تبرئة النخب واتهام الثورة، إعادة إنتاج سياسات نظم ما قبل الثورات. ويترابط القمع والاستبداد مع سياسات التقشف ويفرض الحصار على المجال العام ليصمت من يعاني من أوضاع شديدة القسوة. وارتفعت السجون بدلاً من المصانع. وزادت أسعار الخدمات وجاء من يبرر ارتفاعها. وأصبح التقشف "مجيداً"، والاقتراض "نجاحاً وإصلاحاً غاب طويلاً ولابد من إقراره"، وبدأت قرارات ارتفاع خدمات الطاقة توصف بأنها "شجاعة". وبيع الأصول والأراضي أضحى يسوّق تحت شعارات "زيادة الاستثمار".
لم يعد من تركة الثورة غير بصيص يرتبط بقوة الشعوب وقدرتها على مقاومة هذا الحصار المزدوج بقوة سلاح القمع وبفرض أزمات اقتصادية جديدة عليها. الأمل ما زال قائماً، فلا حل أمام أزمة السياسات الاقتصادية المتمددة إلا المطالبة بتغيير الأنماط المتبعة، وإعادة توزيع الثروة وإقرار العدالة الاجتماعية ومحاسبة الفاسدين... حينها ستخرج نخب أخرى عن صمتها وتعلن أنها كانت تمتلك نقداً للسياسات وللنظم الاقتصادية وكانت تعارض بعضها، سراً.
(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية)