في مقهى باريس في طنجة المغربية كان اللقاء مع الحاج أحمد بوهوت. والمكان الذي شيّد في عام 1940 يليق بنوستالجيا الحاج إلى مدينة عرفت صوراً مغايرة عمّا تعيشه اليوم.
الحاج بوهوت المولود في عام 1927 واحد من قلّة ما زالت تحتفظ بذاكرة شعبية حول المكان. لم يتعلّم في مدرسة ولا في مسجد، مخالفاً بذلك رغبة والده والفقيه، وفضّل البقاء "حراً" يتنقّل بين الغابة التي وجد فيها ملجأ آمناً ومبهجاً وبين سوق دبرا حيث كان يستمتع بمشاهدة الأفلام السينمائية بالأبيض والأسود، مرات ومرات.
يخبر الحاج أنّ في ذلك "الزمن الجميل" (1923 - 1956)، كانت طنجة (شمال) مدينة دولية شهدت طفرة ثقافية جعلتها مكاناً استثنائياً لكتّاب وفنانين عالميين ومحليين رحلوا جميعاً إلى دنيا الحق، من أمثال المؤلف والمترجم الأميركي بول بولز والرسام الفرنسي هنري ماتيس والكاتب الأميركي ويليام بوروز والروائي المغربي محمد شكري وغيرهم. "صحيح أنّني خالفت رغبة والدي في التعلّم، إلا أنّ الحرية علمتني أشياء كثيرة. أمّا القراءة فهواية أخذتها عن والدي الذي اعتاد حمل الكتب في قفّة على كتفه، ولطالما استعرت مؤلفات من المكتبة الأميركية وتلك الإسبانية". يقول: "أخبر أصدقائي دوماً بأنّني أنهيت مرحلة الإعدادي في سينما ألكازارو كابيتون، في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، ومرحلة الثانوي في سوق دبرا والدكتوراه في سوق الداخل". يضيف: "كغيري بدأت أدخل إلى السينما في سنّ العاشرة لمشاهدة أفلام أميركية وعربية وإسبانية، وقد عشقنا المغنية مورينا كلارا التي كانت القاعة تزدحم من أجلها". في ذلك الزمن، "كان جوّ المدينة معرفياً وثقافياً، وقد أغناه تنوّع الإثنيات والمعتقدات وكذلك احترام كلّ فئة عقيدة الأخرى. وكان الإسبان أكبر جالية مع خمسين ألف إسباني، وقد عملوا في الفلاحة والصناعة والبناء والثقافة. كذلك شيّدوا مسرح ثيربانتس، واكتسب منهم المغاربة تقنيات المسرح ليؤلفوا بدورهم فرقة صلاح الدين المسرحية وجمعية خاصة بهم".
بالنسبة إلى الحاج بوهوت، فإنّ "المدينة اختلفت عندما فُتحت فيها مقاه جديدة على شكل صالون شاي، واستُخدمت ماكينات ضاغطة لصناعة القهوة أو الشاي. تعصرنت المدينة إذاً، وأصبح تياران من المقاهي يستقطبان الناس، مقاه عصرية وأخرى شعبية، ولكلّ واحد من التيارَين سماتهما وذوقهما الخاص". يضيف: "قاعة الشاي تختلف عن المقهى. وأوّل مقهى عُرف في طنجة كان قهوة الحافة، إلى جانب قهوة النجاح في زنقة واحد. أمّا اليوم، ففقدت قيمتها التاريخية، إلا أنّ لمستها الفنية في إعداد القهوة على الطريقة القديمة ما زالت موجودة".
ويتحدّث الحاج بوهوت عن "أول اتحاد أوروبي تأسس في طنجة. عندما طبّقت فرنسا وبريطانيا وإسبانيا نظامها الدولي على المدينة وأسست مجلساً تشريعياً خاصاً بها، جاءت بالماء والكهرباء والخدمات الأخرى إلى طنجة. كذلك كانت المدينة مركزاً لصناعة الدخان التي تحتكرها شركات أوروبية". يضيف: "كان مقرّ نائب السلطان في دار النيابة، وفيه يجتمع بالسفراء الأوروبيين. ولا ننسى أنّ طنجة كانت وجهة للجواسيس والمستشرقين، ومقراً للإنكليز الأثرياء الذين جمعوا ثرواتهم من الهند. بالتالي لا داعي لاستغراب إتقان الأطفال ثلاث أو أربع لغات أجنبية".
هل كانت طنجة بالفعل منقسمة إلى فريقين، يفضّلان إمّا أسمهان أو أم كلثوم؟ "كان الناس يسمعون الأغاني عبر آلة الموسيقى على شكل بوق وبالمانيلا في الأربعينيات. وكانت قهوة في سوق دبرا، حيث يستمع الناس إلى أغاني أم كلثوم وأسمهان. لكنّني كنت أفضّل سماع فريد الأطرش لغنائه المصري المطعّم بالشامية. هو لم يكن يشبه الفنانين الآخرين". إلى ذلك، "زار طنجة يوسف وهبي وزوزو نبيل وأمينة رزق التي كانت دائماً بوشاح الأسود. وفي مرّة سألتها: لماذا ترتدين الأسود دائماً؟ أجابت: مهنتي سودة يا بوهوت".
طنجة تغيّرت وكذلك الإنسان، بحسب الحاج بوهوت. "المثالية والأخلاق والجمالية في الإنسان لم تعد مثلما كانت من قبل، على الرغم من التقدم والعلوم وتوفّر الإمكانات. اليوم، تزايد الاستهلاك وأصبح الإنسان أنانياً وطماعاً، لا يكفيه شيء". يضيف: "الإنسان الحديث بدأ ينسى أنّه جزء من الحياة الطبيعية والأرض. لا بدّ أن نعود إلى الطبيعة دائماً. منها خرجت بفلسفتي الخاصة القائلة بعدم إيذاء أي كان ولو حتى حشرة".
كتب الحاج بوهوت ذكرياته في جريدة "طنجيس" في زاوية "ذاكرة طنجة" في ستة أعداد متواصلة، لكنّها توقفت عن الصدور. وهو ما زال متمسكاً بالقراءة، "أقرأ لخمس ساعات يومياً". وفي ذلك الزمن البعيد، كان يقرأ صحفاً مصرية وإسبانية وأوروبية كذلك، ويقول: "كانت تصلنا جريدة الهلال والمصور وجريدة العالم وكتباً من لبنان".