كان المخرج البرتغالي مانويل دي أوليفييرا قد تجاوز المائة عام حين ظهر فيلمه الروائي الأخير "غيبو والظل" (2012)، أما آخر أعماله حقاً فقد كان تسجيلياً قصيراً بعنوان "عجوز بيلام" أخرجه وعرضه العام الماضي في "مهرجان البندقية للأفلام".
السينمائي الشيخ (1908 - 2015) بدأ حياته بفيلم وثائقي صامت سنة 1931 واستمر في إنتاج أشرطة تسجيلية قصيرة لأكثر من ثلاثين عاماً، وها هو ينهي مسيرته من حيث بدأ؛ بفيلم وثائقي أيضاً.
قبل أيام فقط، كان يقال عنه أكبر مخرجي العالم سنّاً، برغم ذلك رحل مثل جدٍّ مُهمل، لم يُحدث ضجة إعلامية ولم يتنبه كثيرون إلى أن صاحب رباعية "الحب المنكوب" (1978) غادر العالم الخميس الماضي.
لا غرابة في هذا الخفوت الإعلامي حوله، فقد اختار أوليفييرا أشكالاً سينمائية ليست جماهيرية، كما أنه كان كريماً في الغياب والانقطاعات لأسباب سياسية تارةً، إذ تزامنت سنوات شبابه مع ديكتاتورية سالازار في بلاده، أو لأسباب مادية أو خاصة تارةً أخرى.
لكن، في منتصف الثمانينيات، جاءت لحظة قتل فيها صاحب "النعل المتسخ" (1985) شهوة الانقطاع تلك، مستبدلاً إياها بحالة نادرة من الرغبة السينمائية التي شغلته بعد أن بلغ 76 عاماً. وكأنه انتبه فجأة لتسرّب الزمن، بدأ يخرج فيلماً كل عام تقريباً، إضافة إلى مسلسلات تلفزيونية قصيرة ووثائقيات. لقد بات مهووساً بالحضور وهو يقترب من الثمانين.
يمكن القول إن أوليفييرا كان نجماً حقاً في السينما الفرنسية، خصوصاً بعد فيلمه "أنا ذاهب إلى البيت" (2001) والذي كان يطرح فيه سؤاله الأثير عن الزمن ومعنى التقدّم فيه والآلام وكذلك المباهج الصغيرة للعيش في ظل الشيخوخة.
حميمية هذه المواضيع وقربها من ذات أوليفييرا نفسه ميزت أعماله التي ظهر معظمها ناطقاً بالفرنسية في الأعوام العشرة الأخيرة مثل "الصورة الناطقة" (2003) و"مبدأ اللايقين" (2002) و"جميلة دائما" (2006) وغيرها. أعمال جعلت ناقديه يصفونه بأنه يضع قدماً في السينما الكلاسيكية وقدماً في الحداثة، لذلك تخرج السينما من بين يديه غرائبية ومربكة.
ثمة شيء غريب وخاص في سينما أوليفييرا، إننا إما نحبها بقوّة أو ننفر منها بالقوة نفسها، مثلما يصعب علينا أن نمسك صفة واحدة ونطلقها على منجز أوليفييرا كلّه، ربما يناسبه القول إن كل فيلم بالنسبة له نزوة سريالية سرعان ما ينفض عنها إلى غيرها.
نشاهد أعقد وأبلغ هذه النزوات في فيلم "الحالة الغريبة لأنجلِيكا"، ربما يكون الأبرز في إنتاج السنوات الأخيرة، ويمكن وصفه بأنه قطعة سينمائية عن الحب والموت، والذي وظّف فيه أوليفييرا الكاميرا كآلة تتحرك بين عالمين لا يمتّان لبعضهما بصلة، عالم الحضور الكلّي للجسد وعالم الموت والغياب الكلّي.
فكرة هذا الفيلم كتبها في الأربعينيات ولم يعمل المخرج المتردد أو الكسول عليها حتى عام 2010، وفيها يُستدعى مصوّر فوتوغرافي في ليلة عاصفة لالتقاط صورة شابة متوفاة وهي مستلقية على السرير، وما أن يبدأ الشاب بالتقاط الصورة حتى تعود الفتاة إلى الحياة، لكنها حياة تخصّ المصوّر وحده، لا يدركها غيره. ينقلنا هذا الفيلم إلى عمل آخر وهو "المرآة السحرية"، حيث الواقعية مرآة الفنتازيا والعكس بالعكس، كعالمين يتعكّز كل منهما في وجوده على الآخر في عين أوليفييرا.
ورغم الغياب الكلّي لأوليفييرا إلا أنه نجح بطريقته السريالية في أن يمدّ عمره السينمائي خطوة في المستقبل، إذ يمكننا أن نشاهد بعد أسابيع عملاً جديداً بتوقيع مانويل دي أوليفييرا كان قد أخرجه سنة 1982 بعنوان "ذكريات واعترافات" وأوصى ألا يتم عرضه إلا بعد مماته.