سنوات عُمره التي جاوزت الستّين قضاها الزجّال المغربي عبد الرحمن الحامولي في مدينة الصويرة الساحلية على ضفاف الأطلسي، لا يغترب عنها إلا راحلا في قصائده، أو مُعتكفاً يتأمّل عابري شوارعها، ممّن انساحُوا واهنين على أرصفة الطُرُقات، تضجُّ عيونهم بجوع ضار، وحرمان مُذلّ، أو مُلاحِقاً أسراب طيور يتّحد مشهد التحامها بقرص الشمس الحاني على صفحة المحيط المضطرب، ليخطّ من وحيه أولى أبيات قصيدته الزجلية.
لا تتساهل في المغرب بعض النخب الثقافية مع الإبداعات الأدبية والشعرية التي تتوسّل "الدارجة المحكية" لغةً لخطابه. فيذهب البعض إلى حدّ إدراجها ضمن خانة "الثقافة التي تنحدر بالوعي وتخلُّ بالذائقة". فيما يعدّها آخرون جزءًا من التراث الشفهي الذي يحوي معانيَ عميقة ومكثّفة تضجُّ بها الذاكرة الشعبية، لا تُفقِدُها اللغة الدارجة العامية عمقها الفلسفي وإحساسها بأبعاد الوجود.
في ظلّ اهتمام خاصّ يُفرَد للكتابات باللغتين العربية والفرنسية، وإقبال صريح من دور النشر على طبع هذه الإنتاجات، مُقابل عزوف مُضمر أو مُعلن عن نشر أعمال بالدارجة المحكية، يقول زجّالون مغاربة لـ"الأناضول" إنّ هذه الأوضاع تتعقّد أكثر حين يتعلّق الأمر بمدن الهامش وقرى الأطراف.
أما أهل الصويرة فيُلقِّبُون عبد الرحمن الحامولي بـ"شيخ الزجّالين" ويجدون بينه وبين شخصية تراثية أثيرة، تدعى عبد الرحمن المجدوب، أوجه شبهٍ وطيدة. فكما اختار ذلك الشاعر الصوفي (توفي عام 1568 ميلادي) أن يسيح في البلاد يتلو على من يصادفه العبر والنصائح بلغة الزجل الزَجِلَة، مثله يسعى الحامولي في شوارع الصويرة ومقاهيها الثقافية. يرتجل زجلاً شاعراً، يصنع لكلّ موقف أو حادثة قصيدة أو أبياتاً، ويتحلّق حوله الصغار والكبار لسماع زجله الهازل أحيانا والاحتجاجي المثقل بالمراثي في أحيان أخرى.
لم تُسعف عبد الرحمن، كما يروي للأناضول، قسوة ظروف الحياة وضنكها، على غرار العديد من الزجّالين المغاربة، في مواصلة مسيرة التحصيل، واكتفى بما يسمح له بالتقاف قلم، والكتابة سجعاً وزجلاً، بالعامية المغربية. أما اتّقاد حسّه ورهافة إحساسه، وولعه بالفنون على اختلاف صنوفها، فقد كان بادياً منذ طفولته المبكرة. فقد احترف المسرح، قبل أن يتفرّغ لكتابة الزجل في أيّام شبابه الأولى.
ما وجده الحامولي في مساحات القصيدة من هامش للحلم والتأمل والتألق، افتقده في حياته اليومية، حيثّ ظلّ لسنوات عاملاً بسيطا للنظافة، يجرّ الخطى وئيدة في الأزقة والحواري، يُنهكه الكدّ طوال اليوم، فيُسلّمُ نفسه ليلا للشعر، يُراوده عن أبياته، يتفحّص تفاصيل يومياته مُنقّباّ عن الحِكَم والمعاني المستترة. ثم فجأة صار مسؤولا عن الخزانة البلدية بالمدينة، إثر قصيدة كتبها أسماها "المكنسة الحضرية" تنتقد الأوضاع الصعبة التي كان يعيشها.
من قصائد عبد الرحمن الحامولي، استوحت مجموعاتٌ غنائية شهيرة في المغرب، كمجموعة "ناس الغيوان" (ظهرت في سبعينيّات القرن الماضي)، أغانيَ ما زال المغاربة يردّدون كلماتها على إيقاعات شعبية هادرة، تذكّر بالحركة الموسيقية الفريدة التي عاشها المغرب خلال سبعينيّات القرن الماضي. وقد امتزج فيها الاحتجاج السياسي على الأوضاع القائمة، بحريّة الإبداع الفني، لتأسيس نسخة مغربية من "الأغنية الملتزمة".
كان على الحامولي انتظار سنوات، قبل أن يصدر له أوّل ديوان شعري طُبع محليا سنة 2007 بعنوان "لي فالقلب على اللسان" أعقبه صدور ديوان آخر سنة 2012 بعنوان "راب الحيط على ظلو" (انهار الحائط على ظله).