الحسكة.. صدام قادم
سلم النظام السوري مدينة الحسكة لوحدات الحماية الشعبية الكردية، وانسحب شمالاً باتجاه مدينة القامشلي، في وقتٍ يحاول فيه تنظيم الدولة الإسلامية، بكل ما أوتي من قوة، اقتحام الحسكة.
وواقع الحال، في هذه المدينة، ينذر بما هو أسوأ من اقتتال دموي، إذا ما تمكن تنظيم الدولة من دخولها. حيث تشكل الحسكة هدفاً استراتيجياً، لاعتبارات جغرافية واقتصادية وسياسية، لكل من التنظيم والنظام.
القراءة الأهم، لمعرفة حقيقة ما ستؤول إليه الأمور ميدانياً في الأيام المقبلة، تتبدى في محاولة الإجابة عن سؤالٍ عما يرمي إليه نظام الأسد، من تسليمه المدينة لوحدات الحماية الشعبية الكردية؟
المعروف عن مدينة الحسكة غناها بالتنوع الديمغرافي السكاني، فهي مزيج ديني وقومي، بالوجود المسيحي فيها بمختلف طوائفه، سواء السريان أو الأرمن أو الآشوريين وغيرهم من الطوائف المسيحية، إلى الأكراد والعرب، ناهيك عن عشرات آلاف النازحين الذين لجأوا إليها من المحافظات الأخرى، هرباً من الموت، وباعتبارها منطقة، إلى حد ما، آمنة وبعيدة عن التوترات العسكرية والأمنية، لكن حالها تغير الآن.
والمراقب لحال النظام، في مسيرة الثورة السورية، يعرف تماماً أنه يراهن بانتصاره على عاملين مهمين، هما الوقت والإرهاب. حيث ما انفك يحاول جاهداً إعادة تسويق نفسه للمجتمع الدولي، على أنه حامي الأقليات والسلم الأهلي للدولة، باللعب بورقة الإرهاب التي، حسب رأيه، ستجبر الغرب على التحالف معه، للقضاء على هذه الظاهرة، وبالتالي، ضمان بقائه في الحكم والسلطة.
اعتمد النظام في مدينة الحسكة، في سد النقص في قواته، على العرب من سكانها، في تشكيل ما يسمى جيش الدفاع الوطني، إضافة إلى كتائب البعث المشكلة من أبناء العرب، والذين منحهم السلطة والنفوذ، ليقوموا بفعل ما يشاءون في المدينة.
بينما اكتفى هو بالجلوس في مربعه الأمني، حيث كانت تشهد المدينة، بين حين وآخر، اشتباكات بين ميليشيا الدفاع الوطني ووحدات الحماية الشعبية، لتوسيع السيطرة والنفوذ على الأحياء ومؤسسات الدولة، ولطالما كان يطمئن العرب أنه معهم ضد التغول العسكري الكردي.
لكنه بتسليم المدينة ومفاصلها لوحدات الحماية الشعبية، سوف يدفع العرب إلى الشعور بأنهم تركوا وحيدين، بين خيارين، إما العنصر الكردي القومي المسلح، أو تنظيم الدولة الإسلامية، وبهذا سيدفع العرب ربما للتحالف مع تنظيم الدولة، خشية ابتلاع القوات الكردية المدينة، وبالتالي، تخوفهم من الاضطهاد والمعاملة العنصرية. فالثقة بين المكونين شبه معدومة، بسبب سياسات البعث طوال خمسين عاماً.
فهناك من العرب من ما زالوا ينظرون للكرد، على أنهم انفصاليون، وهناك من الكرد، من ما زالوا ينظرون للعرب على أنهم شوفينيون بعثيون، وهنا مكمن الخطورة في العمل على تهيئة بيئة حاضنة لتنظيم الدولة داخل المدينة، ما يدفع تحول الاقتتال إلى صراع إثني قومي عربي كردي، إضافة إلى وجود حي غويران المحاصر، منذ أكثر من سنة، من ميلشيات النظام، والذي يقع على مدخل الحسكة الجنوبي، ما سوف يسهل على التنظيم دخول المنطقة الجنوبية من المدينة، بالسعي إلى استثمار حالة احتقان أهالي الحي من النظام، والميليشيات التابعة له، وبالتالي، توفير البيئة المناسبة لدخوله.
على الجانب الآخر، تقف وحدات الحماية الشعبية الكردية أمام خياراتٍ صعبة، تتراوح بين الالتزام القومي والرهان السياسي الداخلي، كونها معنية بالدفاع عن الأحياء ذات الغالبية الكردية في الحسكة. لكن الاستغراب الحاصل ينبع من دأب القوات الكردية على حماية مراكز النظام، وأن يبذلوا دماءهم في سبيل حماية قوات النظام المنسحبة، وهم، أي الكرد، ذاقوا الكثير من التهميش والقمع من النظام على مدار عقود، وما الحال الذي ستكون عليه وحدات الحماية الشعبية، إذا نجح التنظيم بدخول المدينة، وتم الاشتباك والصدام؟ وهل سيهتم النظام للدماء الكردية، خصوصاً أنه لم يهتم لدماء مئات آلاف السوريين، وحتى من عناصره الذين نحرهم تنظيم الدولة.
تجدر الإشارة، هنا، إلى أن العلاقة بين تنظيم الدولة ووحدات الحماية الشعبية تتسم بالتهديد والوعيد والثأر بين بعضهم. إذ لن يتوانى الطرفان عن تبادل الضربات، وبهذا، ستكون الكلفة البشرية كبيرة بين المدنيين، وحتى على البنية التحتية للمدينة التي ستتحول بفعل الصراع فيها إلى مدينة أشباح، وبهذا، سيكسب النظام عدة أمور، أهمها استنزاف القوة العسكرية الكردية المسلحة، التي ينظر إليها كأحد المخاطر المستقبلية على سلطته، إضافة إلى استغلال هذا الوضع في ترويج نفسه غربياً، على أنه حامي العالم من الإرهاب.
أصوات كردية عدة بدأت تنادي بعدم الانجرار وراء النظام السوري، وما يخطط له، وأن يحذر الكرد السوريون من مخططات الأسد. لكن الواقع يفيد بأن الصدام الأيديولوجي قادم، والسبيل الوحيد لمنعه، ربما هو تحالف وحدات الحماية الشعبية مع قوات المعارضة المعتدلة، وطرد النظام من الحسكة، فمن باب سيكسبون العرب إلى صفهم بشكل أوسع، ومن باب آخر سيسحبون البساط من تحت أقدام النظام، ويمنعونه من التلاعب بدماء أبناء المنطقة بمختلف مكوناتها.
وعلى العرب أن يدركوا أن النظام يدفع بهم وبأبنائهم إلى أحضان داعش، ومصير مستقبلي مجهول محفوف بالدماء، وأن الخيارات التي أمامهم محدودة، وأن من كان يراهن منهم على النظام خسر.