04 نوفمبر 2024
الحكومة التونسية ومائة يوم من الإخفاق
على خلاف ما كان متوقعاً، مرت المائة يوم الأولى من فترة تسلمها الحكم من دون إثارة أو بهرجة. وكانت الحكومة التونسية قد التزمت بأن تجعل من هذا التاريخ حدثاً للاحتفاء بإنجازاتها. ولكن، يبدو أن الحصيلة الهزيلة هي التي دفعتها إلى صرف النظر عن هذا الحدث، وألا توليه اهتماما يذكر. ولكن، على خلاف ذلك، أثارت بعض وسائل الإعلام الوطنية الحدث، واستدعت بعض نواب الشعب، وحاورت المواطنين. هناك إحساس عام بأن المنجز من عمل الحكومة لم يكن بحجم انتظارات الناس، ولا بحجم ما أطلقته الحكومة من وعود. ولكن، الثابت أيضا أن الحكومة تشعر، حالياً، بمزيد من التواضع الممزوج بالخيبة. شيء من المرارة في حلقها يُربكها، ويدفعها إلى مزيد من الارتباك والتلعثم. علينا ألا ننسى أن هذه الحكومة، حتى وإن شاركت فيها حركة النهضة وحزبان آخران، هما آفاق والاتحاد الوطني الحر، فيما يشبه الائتلاف الحكومي، فان الرأي العام السياسي ينظر إليها على أساس أنها حكومة "نداء تونس"، وهو الحزب الذي حاز المرتبة الأولى في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014، تماما كما تنسب حكومة الترويكا التي شارك فيها كل من حزب المؤتمر والتكتل من أجل العمل والحريات إلى حركة النهضة. في هذا النسب كثير من الصحة، فلقد استفرد حزب النداء بأهم الحقب الوزارية، في حين لم يكن نصيب "النهضة"، مثلاً، سوى حقيبة وزارية واحدة وكتابتي دولة.
يتساءل عديدون كيف خذل حزب نداء تونس ناخبيه؟ وهو الذي وعدهم بأن يكون بديلاً عن "النهضة"، وأن يحفر أخدود القطيعة معها، وإذا به يتحالف معها لتشكيل الحكومة الحالية. حركة النهضة التي كان حزب النداء يعد مشروعها المجتمعي مناقضاً تماماً لمشروعه هي الآن حليفه في الحكم.
ربما كانت تلك إحدى أحجيات الانتخابات التونسية التي لم تكشف بعد عن كل أسرارها. هل كان إشراك "النهضة" في الحكومة الحالية أحد ثمار اللقاء الذي جمع زعيم "نداء تونس" الرئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، وزعيم "النهضة"، راشد الغنوشي، في باريس، في أغسطس/آب 2013، ولم يتسرب منه، إلى الآن، سوى معلومات شحيحة؟ قد يكون ذلك اللقاء هو الذي وضع البلاد على السكة الراهنة التي لا تعد الانتخابات سوى إحدى محطاتها. أم هل كان الائتلاف الحكومي من باب الضرورة، والضرورات قد تبيح المحظورات.
المهم أنه، وعلى خلاف كل التعهدات التي أعلنها حزب نداء تونس قبل الانتخابات، وحتى بعيدها، شكل "النداء" الحكومة مع خصمه اللدود، واضطرت قواعد الحزب في أكثر من مناسبة إلى التعبير عن تذمرها وأبدت أشكالاً من الاحتجاج، على غرار بعض الاعتصامات والعرائض، بل يذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن أحد أسباب الخلافات التي تعصف بالحزب منذ فوزه، والتي أدت ببعضهم إلى الخروج والطرد هو ذلك التحالف.
رسمت هذه الحكومة لنفسها ثلاثة أهداف كبرى، أعلنت عنها في أكثر من مناسبة، هي: استرجاع هيبة الدولة ومكافحة الجماعات الإرهابية استعادة للأمن وتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، وقد طلبت من أعضائها أن يحددوا خمس أهداف كبرى، كل في قطاعه، تدرك في أفق السنوات الخمس المقبلة.
بقطع النظر عن الإخفاق الإعلامي الذريع الذي يسجله الملاحظون، لأسباب عديدة، تعود ربما إلى خصال ذاتية لوزراء عديدين، متسمة بافتقاد المهارات الاتصالية والحد الأدنى من الرأسمال الاتصالي والأخطاء الفادحة التي ارتكبوها، وأساساً وزير الخارجية الذي أحرجت مواقفه الحكومة في أكثر من موقف، على غرار مواقفه من تركيا وسورية وليبيا، أو وزير البيئة الذي يتعهد للتونسيين بإحداث وكالة لمقاومة البعوض، وتحويل إحدى السباخ إلى بحيرة سياحية، تجري فيها أكبر منافسات القوارب الشرعية، وكأن الأمر يتعلق بإحدى بحيرات سويسرا، الأمر الذي أطلق موجة من التعليقات الساخرة على شبكات التواصل الاجتماعي، فإنّ لا شيء استثنائياً تحقق على الأرض. هذا إحساس عام عبر عنه التونسيون، ولم تجانب الصواب مؤسسات استطلاع الرأي، هذه المرة، حين نقلت أرقامها هذه الحقيقة.
لم يشعر الناس، حقيقة، أن الأمور تغيرت، وبات بعضهم يتحسر على أيام الترويكا. ففي مجال حرية الإعلام، مثلاً، أثارت نقابة الإعلاميين، في أكثر من مناسبة، الضغوط المسلطة عليها، وهي التي، حسب اعتقادها، لم تقع مطلقا في أيام الترويكا. أما في مستوى معيشة الناس، فإن الأمور تدهورت أكثر، وقد اعتقدت الحكومة، في يسارية فجة، أن إرضاء بطون الناس قد يكون مجلبة لإرضاء عقولهم وقلوبهم. تضاعفت أثمان المواد المعيشية واكتشف الناس أنهم ضحية شبكات من التهريب، وما فضيحة شبكات اللحوم الفاسدة (لحوم الحمير) إلا مؤشر على ما نخر اقتصاد البلاد. لم تحدث المعجزة، وقد أكدت الحكومة أنها لا تملك العصا السحرية، وهذا الاعتراف مناقض تماما للخطاب الانتخابي لحزب النداء الذي روج فيه أنه، بمجرد مغادرة "الترويكا"، وخصوصا "النهضة"، ستفتح صفحة الرخاء، وأن أصدقاء تونس ينتظرون مغادرتها ب"فارغ الصبر"، وأنهم على أهبة الاستعداد لتحويل البلاد إلى جنة تنسي التونسيين جحيم "الترويكا". لماذا تراجع هؤلاء حينئذ على وعودهم وأين استثماراتهم التي وعدوا بها النداء؟ هل نكثوا هم أيضاً تعهداتهم أم رفض النداء شروطهم وإملاءاتهم؟ أم أن تلك الوعود لم تطلق أصلاً.
تصاب البلاد حالياً بشلل اقتصادي رهيب، وقد توقف الإنتاج في أكبر المناطق الصناعية في البلاد: الحوض المنجمي في قفصة والمركب الكيمياوي في قابس والمنطقة الصناعية في صفاقس، ما كلف البلاد ما يفوق ديونها بعد الثورة. ويحذر أكثر الخبراء تفاؤلاً من إفلاسٍ قد يعصف بالبلاد، لا قدر الله، ولو حدث ذلك، فإن تجربة الانتقال الديمقراطي قد تطوى.
ربما يخطط بعضهم لهذا السيناريو بتحريض من قوى إقليمية ودولية عديدة. ولكن، ربما تكون كلفته المالية والبشرية المرتفعة هي التي تدعوهم إلى مزيد من التريث، قبل الإقدام على تنفيذه. تتهاوى تدريجياً صورة الدولة وهيبتها أمام تنطع غير مسبوق من نقابات منفلتة، استأسدت على الدولة، وشذت عن جميع أعراف العمل النقابي، الإضراب الأخير الذي ما زال متواصلاً لسواقي القطارات خير دليل على تلك الهيبة المهدورة، وهي الهيبة المبددة أيضاً بفعل النفوذ المتزايد لشبكات التهريب والمال الفاسد ولوبيات المصالح المتحالفة مع أركان الدولة العميقة.
ربما نقطة الضوء الوحيدة التي تحسب لهذه الحكومة تحسن الأداء الأمني للأجهزة المختصة في مقاومة الإرهاب أساساً، وما الضربات الأخيرة التي نالت من قيادات هذه الخلايا سوى مؤشر على ذلك، وقد كانت عملية متحف باردو حافزاً لاستعادة شرفٍ مس في الصميم.
باستثناء هذا المعطى الذي يحسب للحكومة، فإن كشف حساب المائة يوم الأولى من عملها سينهش، ولا شك، من عمرها الافتراضي، الشيء الكثير، وهو عمر في نقصان متسارع، بفعل بلقنة الحكومة ووقوع وزارات بأكملها خارج مناطق السيطرة.
في ظل حكومات الظل المتناسلة حالياً، كل السيناريوهات في تونس، حتى أشدها سوريالية، واردة.
ربما كانت تلك إحدى أحجيات الانتخابات التونسية التي لم تكشف بعد عن كل أسرارها. هل كان إشراك "النهضة" في الحكومة الحالية أحد ثمار اللقاء الذي جمع زعيم "نداء تونس" الرئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، وزعيم "النهضة"، راشد الغنوشي، في باريس، في أغسطس/آب 2013، ولم يتسرب منه، إلى الآن، سوى معلومات شحيحة؟ قد يكون ذلك اللقاء هو الذي وضع البلاد على السكة الراهنة التي لا تعد الانتخابات سوى إحدى محطاتها. أم هل كان الائتلاف الحكومي من باب الضرورة، والضرورات قد تبيح المحظورات.
المهم أنه، وعلى خلاف كل التعهدات التي أعلنها حزب نداء تونس قبل الانتخابات، وحتى بعيدها، شكل "النداء" الحكومة مع خصمه اللدود، واضطرت قواعد الحزب في أكثر من مناسبة إلى التعبير عن تذمرها وأبدت أشكالاً من الاحتجاج، على غرار بعض الاعتصامات والعرائض، بل يذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن أحد أسباب الخلافات التي تعصف بالحزب منذ فوزه، والتي أدت ببعضهم إلى الخروج والطرد هو ذلك التحالف.
رسمت هذه الحكومة لنفسها ثلاثة أهداف كبرى، أعلنت عنها في أكثر من مناسبة، هي: استرجاع هيبة الدولة ومكافحة الجماعات الإرهابية استعادة للأمن وتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، وقد طلبت من أعضائها أن يحددوا خمس أهداف كبرى، كل في قطاعه، تدرك في أفق السنوات الخمس المقبلة.
بقطع النظر عن الإخفاق الإعلامي الذريع الذي يسجله الملاحظون، لأسباب عديدة، تعود ربما إلى خصال ذاتية لوزراء عديدين، متسمة بافتقاد المهارات الاتصالية والحد الأدنى من الرأسمال الاتصالي والأخطاء الفادحة التي ارتكبوها، وأساساً وزير الخارجية الذي أحرجت مواقفه الحكومة في أكثر من موقف، على غرار مواقفه من تركيا وسورية وليبيا، أو وزير البيئة الذي يتعهد للتونسيين بإحداث وكالة لمقاومة البعوض، وتحويل إحدى السباخ إلى بحيرة سياحية، تجري فيها أكبر منافسات القوارب الشرعية، وكأن الأمر يتعلق بإحدى بحيرات سويسرا، الأمر الذي أطلق موجة من التعليقات الساخرة على شبكات التواصل الاجتماعي، فإنّ لا شيء استثنائياً تحقق على الأرض. هذا إحساس عام عبر عنه التونسيون، ولم تجانب الصواب مؤسسات استطلاع الرأي، هذه المرة، حين نقلت أرقامها هذه الحقيقة.
لم يشعر الناس، حقيقة، أن الأمور تغيرت، وبات بعضهم يتحسر على أيام الترويكا. ففي مجال حرية الإعلام، مثلاً، أثارت نقابة الإعلاميين، في أكثر من مناسبة، الضغوط المسلطة عليها، وهي التي، حسب اعتقادها، لم تقع مطلقا في أيام الترويكا. أما في مستوى معيشة الناس، فإن الأمور تدهورت أكثر، وقد اعتقدت الحكومة، في يسارية فجة، أن إرضاء بطون الناس قد يكون مجلبة لإرضاء عقولهم وقلوبهم. تضاعفت أثمان المواد المعيشية واكتشف الناس أنهم ضحية شبكات من التهريب، وما فضيحة شبكات اللحوم الفاسدة (لحوم الحمير) إلا مؤشر على ما نخر اقتصاد البلاد. لم تحدث المعجزة، وقد أكدت الحكومة أنها لا تملك العصا السحرية، وهذا الاعتراف مناقض تماما للخطاب الانتخابي لحزب النداء الذي روج فيه أنه، بمجرد مغادرة "الترويكا"، وخصوصا "النهضة"، ستفتح صفحة الرخاء، وأن أصدقاء تونس ينتظرون مغادرتها ب"فارغ الصبر"، وأنهم على أهبة الاستعداد لتحويل البلاد إلى جنة تنسي التونسيين جحيم "الترويكا". لماذا تراجع هؤلاء حينئذ على وعودهم وأين استثماراتهم التي وعدوا بها النداء؟ هل نكثوا هم أيضاً تعهداتهم أم رفض النداء شروطهم وإملاءاتهم؟ أم أن تلك الوعود لم تطلق أصلاً.
تصاب البلاد حالياً بشلل اقتصادي رهيب، وقد توقف الإنتاج في أكبر المناطق الصناعية في البلاد: الحوض المنجمي في قفصة والمركب الكيمياوي في قابس والمنطقة الصناعية في صفاقس، ما كلف البلاد ما يفوق ديونها بعد الثورة. ويحذر أكثر الخبراء تفاؤلاً من إفلاسٍ قد يعصف بالبلاد، لا قدر الله، ولو حدث ذلك، فإن تجربة الانتقال الديمقراطي قد تطوى.
ربما يخطط بعضهم لهذا السيناريو بتحريض من قوى إقليمية ودولية عديدة. ولكن، ربما تكون كلفته المالية والبشرية المرتفعة هي التي تدعوهم إلى مزيد من التريث، قبل الإقدام على تنفيذه. تتهاوى تدريجياً صورة الدولة وهيبتها أمام تنطع غير مسبوق من نقابات منفلتة، استأسدت على الدولة، وشذت عن جميع أعراف العمل النقابي، الإضراب الأخير الذي ما زال متواصلاً لسواقي القطارات خير دليل على تلك الهيبة المهدورة، وهي الهيبة المبددة أيضاً بفعل النفوذ المتزايد لشبكات التهريب والمال الفاسد ولوبيات المصالح المتحالفة مع أركان الدولة العميقة.
ربما نقطة الضوء الوحيدة التي تحسب لهذه الحكومة تحسن الأداء الأمني للأجهزة المختصة في مقاومة الإرهاب أساساً، وما الضربات الأخيرة التي نالت من قيادات هذه الخلايا سوى مؤشر على ذلك، وقد كانت عملية متحف باردو حافزاً لاستعادة شرفٍ مس في الصميم.
باستثناء هذا المعطى الذي يحسب للحكومة، فإن كشف حساب المائة يوم الأولى من عملها سينهش، ولا شك، من عمرها الافتراضي، الشيء الكثير، وهو عمر في نقصان متسارع، بفعل بلقنة الحكومة ووقوع وزارات بأكملها خارج مناطق السيطرة.
في ظل حكومات الظل المتناسلة حالياً، كل السيناريوهات في تونس، حتى أشدها سوريالية، واردة.