مدينة حلب، حالها كحال معظم المدن السورية، همشتها الدراما السورية عبر تاريخها، فعدد المسلسلات التي صورت مدينة حلب قليل جداً. وفعلياً، إن تخصيص عمل تلفزيوني لتصوير مدينة حلب تأخر كثيراً، إذ إن أول عمل درامي صوّر بحلب هو سهرة تلفزيونية للمخرج هيثم حقي، اسمه "نقطة في بحر"، عُرضت عام 1990؛ أي بعد تأسيس التلفزيون السوري بثلاثين سنة. وبالواقع، إن الفضل يعود إلى هيثم حقي بخلق ما يعرف بدراما البيئة الحلبية، وذلك عندما أسس شركة "حلب الدولية" التي أنتجت عدة مسلسلات حلبية مهمة في النصف الثاني من التسعينيات، مثل "خان الحرير" و"الثريا".
إن نجاح هذه المسلسلات شعبياً، جعل شركات الإنتاج السوري الخاصة والعامة تفكر بجدية بإنتاج مسلسلات بيئة حلبية، وكان من أهمها: "باب الحديد" و"سيرة آل الجلالي" و"ربيع بلا زهور" و"البيوت أسرار" و"كوم الحجر"؛ لتصبح حلب في العقد الأول من الألفية الثالثة ثاني أكثر مدينة سورية صُورت فيها مسلسلات، بعد العاصمة دمشق، التي تُصور بها معظم المسلسلات السورية. ورغم ذلك، فإن أعمال البيئة الحلبية بقيت قليلة نسبةً لمجمل إنتاجات الدراما السورية في تلك الحقبة؛ قبل أن تتوقف عجلة الإنتاج بشكل كامل في حلب عقب اندلاع الثورة السورية. وآخر المسلسلات اللي كان من المفترض أن يُصوَّر بحلب، هو مسلسل "وداد من حلب" المقتبس عن رواية تحمل ذات الاسم للكاتب قحطان مهنا؛ فتم التحضير لتصوير المسلسل في حلب سنة 2012، ولكن مخرج العمل، باسل الخطيب، اضطر لتغيير بنية العمل كاملاً بسبب الدمار الذي حل بالمدينة حينها، فغير بيئة المسلسل واسمه، ليصبح "حدث في دمشق" وتم تصويره بالعاصمة دمشق.
ورغم أن بعض هذه الأعمال كانت مهمة لتوثيق مدينة حلب وتصوير حكايات الناس فيها، ورغم أن بعضها كان مقتبساً عن روايات هامة خلّدت المدينة؛ لكن هذه المسلسلات ساهمت فعلياً بتنميط أهل مدينة حلب؛ فبعض المعتقدات السائدة التي عرّفت حلب على أنها العاصمة الاقتصادية لسورية هي أفكار ساهمت دراما البيئة الحلبية بتكريسها؛ الدراما التي تتمحور حكاياتها غالباً حول التجار وأصحاب المعامل، وتدور الصراعات الدرامية فيها ما بين أصحاب رؤوس الأموال الذين يسعون لتحقيق الربح والنفوذ في أسواق المدينة القديمة. وبالمقابل، فإن المسلسلات التي حاولت أن تظهر الجانب الثقافي لمدينة حلب، والتي تم اختيارها لتكون عاصمة الثقافة الإسلامية سنة 2006، هي قليلة جداً؛ وغالباً ما كان هذا الجانب يظهر في هامش ضيق، ضمن صراعات العائلة الواحدة التي يتزعمها التجار وأصحاب رؤوس الأموال.
فمسلسلات البيئة الحلبية لم تصور يوماً آليات صناعة الفن الحلبي، ولم تدخل كاميرات التلفزيون يوماً إلى كواليس المسرح الحلبي لتنقل للجمهور طريقة صناعته، في الوقت الذي كانت الكثير من المسلسلات تحاكي صناعة المسرح في دمشق، ولم تهتم هذه المسلسلات يوماً بتصوير أجواء القدود الحلبية وحياة فنانيها، مع العلم أن القدود الحلبية تعتبر الموسيقى الأصيلة الأكثر انتشاراً في سورية. فعلياً، هذه المسلسلات حصرت مدينة حلب بوجهها الاقتصادي فقط، ليبدو مجتمع حلب من خلالها ليس سوى مجتمع ذكوري إسلامي محافظ، همه الوحيد هو تجميع الثروات التي تعطي لأصحابها النفوذ في المدينة؛ وهي صورة ناقصة بالتأكيد، واختزال مدينة حلب فيها هو أمر غريب حقاً.
وبعدما استعاد النظام السوري مدينة حلب، التي تسبب بتدميرها، عادت كاميرات الدراما السورية لحلب بتجربتين فقط؛ الأولى هي مسلسل "روزنة" سنة 2018، والثانية مسلسل "حارس القدس" سنة 2020؛ وفي هذين المسلسلين الذين أُنتجا لتدعيم بروباغندا النظام السوري وروايته الرسمية بما يتعلق بمدينة حلب، كانت نغمة التباكي على مدينة حلب وآثارها هي بطلة المشهد، وأصابع الاتهام التي تلوّح للإرهابيين المجهولين حاضرة بكل التفاصيل؛ وبين السطور كانت تظهر صورة نمطية جديدة لحلب، لم يسبق لها الحضور بالدراما السورية؛ هي صورة المجتمع متعدد الأعراق المتعايش بسلام في المدينة العريقة الهانئة؛ لتضرب هذه الصورة عرض الحائط معظم ما تم تقديمه في الدراما السورية سابقاً عن مدينة حلب.
ومع ذلك، فإن صورة أهالي حلب في مسلسلات البيئة الحلبية تبقى أفضل بكثير من الصور النمطية التي تم تقديمها عن أبناء حلب في المسلسلات الأخرى، التي تحضر فيها شخصيات حلبية ضمن فضاء مدينة دمشق أو ضمن مدن أخرى؛ فهذه المسلسلات اعتمدت بشكل كلي على لهجة حلبية ثقيلة وقديمة، تداولها اليوم محصور على بعض الحارات القديمة فقط، لكن استخدامها المفرط والنمطي جعل صورة الحلبي ولهجته مقترنتين عند شريحة كبيرة من الجمهور بالأدوار اللي جسدها محمد خير الجراح أو شكران مرتجى، في مسلسلات كتيرة متل: "ألو جميل ألو هناء" و"صبايا" و"الولادة من الخاصرة" وغيرها. وهي بدورها كرست بعض الصور النمطية المسيئة؛ فالحلبيون وفقاً لهذه المسلسلات ليسوا فقط أشخاصاً مولعين بالمال، بل هم أيضاً أشخاص يتسمون بالسماجة وثقل الدم، يتكلمون بلهجة ثقيلة وردود أفعالهم بطيئة. كما أن هذه المسلسلات التي حاولت أن تختلق الكوميديا من خلال تقديم لهجة حلبية مشوهة، أدخلت على اللهجة الحلبية كلمات كثيرة ليس لها وجود في الواقع، مثل الأكلة الافتراضية الشهيرة "باتنجان معفص باللبن". وخلال السنوات الماضية قام العديد من "اليوتيوبر" الحلبيين ببث فيديوهات ليتحدثوا فيها عن معاناتهم مع المصطلحات الحلبية في المسلسلات، وذكروا أنهم يمضون الكثير من لقاءات التعارف مع أبناء المدن الأخرى وهم يشرحون لهم أن لا وجود لهذه الكلمات أصلاً وأنهم لا يستخدمون هذه اللغة.
وما ينطبق على حلب ينطبق على باقي المدن السورية، التي نمطتها الدراما وقدمت عنها صوراً منقوصة ومشوهة؛ فدمشق ليست مدينة الياسمين وحاراتها القديمة لا تفوح منها رائحة العطر، بل معظم هذه الحارات تفوح منها روائح كريهة بسبب مشاكل في الصرف الصحي وإهمال الحكومة. وكذلك دير الزور، أبناؤها ليسوا أشخاصاً بسطاء يسهل الضحك عليهم ومن الممكن أن يستغلهم أبناء المدن، بل على العكس من ذلك، إن نسبة المتعلمين في دير الزور هي الأعلى بين المحافظات السورية. وليس جميع أهالي الساحل من أصحاب النفوذ والمناصب وليس كل أبناء مدينة السويداء هم مثقفون يساريون متشددون؛ هذه جميعها صور نمطية كرستها الدراما السورية، وقليلة جداً هي المحاولات التي سعت لتغييرها.