02 نوفمبر 2024
الديمقراطية المكروهة
يشكو سائق التاكسي، وهو يعبر شوارع العاصمة المزدحمة، من أنه لم يعد يعرف المدينة التي عاش فيها: تلك ليست تونس التي كانت، كأنني أعيش في أدغال أفريقيا... يقول وهو لا يتوقف عن الشكوى من تراجع أحوال البلاد. وماذا عن الديمقراطية؟ أسأله فيقول: وماذا تفيدني أنا الديمقراطية؟ أنا أريد أن آكل وأشرب وأعيش بأمان. يجيب مسترسلا في شرح ما يعتبره فشل الديمقراطية في العالم المتقدّم قبل عالمنا. هل يُعقل أن كيلوغرام اللحم كان ببضعة دنانير أيام بن علي، وبات اليوم بأكثر من عشرين ديناراً؟ يقول ويتابع سرد أمثلة عما يراه سوء إدارة في تونس الجديدة. هل يمارس سائق التاكسي هواية "النق" التي هي عادة عربية بامتياز، أم يتحدث بلسان آلاف من أمثاله، ممن لم تطاولهم فوائد الديمقراطية الناشئة؟ هل كانت فعلا مرحلة بن علي ذهبيةً في ضمان الاستقرار، حسب ما يقول سائق التاكسي، ومثله كثيرون، أم أن الحنين للماضي وتجميله ردة فعل على خيبة الأمل من التوقعات المبالغ بها بالتغيير.
المتجول في شوارع العاصمة التونسية، نموذج النجاح الوحيد للثورات العربية في موجتها الأولى، لا يشعر بكثير من الحبور، أو حتى الفخر، للانتماء لتلك التجربة الاستثنائية في عالمٍ عربيٍّ مواظب على التراجع في سلم الديمقراطية. مع توجه الاهتمام الإعلامي إلى موجات الربيع الجديدة في السودان والجزائر، لم تعد الحالة التونسية محور الاهتمام الأبرز، كما أنها لا تقدّم الدراما المتواصلة من سورية ومصر وليبيا وغيرها من موجات الربيع التي انتهت إلى عنفٍ أو قمع شديدين. يقدّم المشهد السياسي في تونس استمراريةً للآليات الديمقراطية كما يواظب النظام الجديد على إبداء مرونةٍ في استيعاب التناقضات وصهرها، من دون أن ينعكس ذلك في ثقافة تعايشٍ فعليةٍ خارج إطار السياسة بمفهومها التقليدي. هل هو الاستقطاب التقليدي بين العلمانيين والإسلاميين الذي لا يزال يطفو على السطح أنه المحور الأساسي للانقسام، أم استمرار التهميش المناطقي الذي شكل أحد أبرز دوافع الثورة أو الأزمة الاقتصادية التي حالت دون تمتع التونسيين بفوائد الانفتاح أو تحول النظام الزبائني الذي كان محصورا بجماعة بن علي إلى شبكة معقدة من المصالح يلعب فيها الإعلام دورا أساسيا؟ تونس ليست تونس الماضي، لكنها أيضا ليست التي تخيلها قسم كبير ممن شاركوا في الحراك المؤيد للديمقراطية.
تقدّم المؤشرات الاقتصادية صورة قاتمة عن الحياة اليومية للمواطن التونسي، بما في ذلك، علي سبيل المثال، ارتفاع أسعار المحروقات، وارتفاع أسعار المواد الغذائية خلال شهر رمضان
الفائت، بنسبة 30% أو الأرقام الصادرة أخيرا عن المعهد الوطني للاستهلاك، عن وصول نسبة العائلات المديونة في تونس إلى 1,8 مليون عائلة من أصل 2,8 مليون عائلة، وهي نسبة تفوق ثلاث مرات ما كانت عليه قبل التغيير. هل تشكل الصعوبات الاقتصادية العامل الوحيد في الشعور بالخيبة لدى شريحةٍ واسعةٍ من التونسيين؟ أم أنها خيبة الأمل المعتادة لمرحلة ما بعد الثورات، إذ يتوقع أصحاب الثورة تقدّما جذريا مكافأة لتضحياتهم، في حين إنهم غالبا ما يمرون بظروف معيشية أقل بكثير مما كانت عليه أحوالهم قبل الثورة.
تقول محدّثتي، وهي واحدةٌ من مجموعة من الصحافيين والصحافيات التقيت بهم في جولتي البحثية أخيرا في تونس، إن الحراك الشعبي في الجزائر والسودان يأخذ في الاعتبار ضرورة الحفاظ على الاستقرار. وتلك نقطة مهمة أغفلها الثوار التوانسة، وهي، في حديثها، تعكس حالة التضارب التقليدية بين كره النظام السابق والحاجة إلى ما كان يقدّمه من ضمانات هي أشبه بالأمان الذي يغدقه نظام أبوي سلطوي. تبدو العملية الديمقراطية السائرة بثباتٍ وهشاشةٍ في آن في تونس، بالنسبة لكثيرين ممن شاركوا فيها، وتوقعوا حياة أفضل، عملية فوقية معنية
بالصفقات السياسية بين فرقاء أقوياء أكثر مما هي معنيةٌ بنداء الكرامة لهؤلاء الذين همّشهم النظام السابق، وأعاد النظام الجديد تهميشهم، وإنْ بشكل مختلف. بخلاف دينامية السياسة والإعلام غير المسبوقة في البلاد، تقدّم الأرقام المتوافرة في المجالات الأخرى صورة قاتمة: نسبة هجرة أدمغة غير مسبوقة، أدوية مفقودة من المستشفيات، مِؤسسات متدنية الفاعلية والجدوى، شبكة طيران وطنية في حالة متردية، نسبة انتساب مرتفعة للشبان في منظمة داعش الإرهابية، ارتفاع فاحش للأسعار، انقسام مجتمعي حاد بين علمانيين ومحافظين إسلاميين.
أثبتت العملية الانتقالية في تونس قدرةً لافتة على الثبات في وجه تعاظم سطوة الثورات المضادة، وفشل تجارب الموجة الأولى للربيع العربي. إلا أن الصورة التي يقدّمها المجال العام الجديد هي أشبه بشبكةٍ معقدة من المصالح المتقاطعة، تعيد إنتاج النظام الزبائني القديم، حيث للمال ومنطق الصفقات اليد الطولى في تحديد مراكز النفوذ الجديدة. أن تكون الديمقراطية من فوق بخير، يحتفي بها الإعلام الدولي على أنها النموذج، في حين أنها مكروهة في حديث العامة، على أنها المسؤولة عن ضيق حالهم، فذلك خطر حقيقي على البلاد. شبح الديكتاتور الجديد "منقذ" البلاد من الفوضى ليس بعيدا.
المتجول في شوارع العاصمة التونسية، نموذج النجاح الوحيد للثورات العربية في موجتها الأولى، لا يشعر بكثير من الحبور، أو حتى الفخر، للانتماء لتلك التجربة الاستثنائية في عالمٍ عربيٍّ مواظب على التراجع في سلم الديمقراطية. مع توجه الاهتمام الإعلامي إلى موجات الربيع الجديدة في السودان والجزائر، لم تعد الحالة التونسية محور الاهتمام الأبرز، كما أنها لا تقدّم الدراما المتواصلة من سورية ومصر وليبيا وغيرها من موجات الربيع التي انتهت إلى عنفٍ أو قمع شديدين. يقدّم المشهد السياسي في تونس استمراريةً للآليات الديمقراطية كما يواظب النظام الجديد على إبداء مرونةٍ في استيعاب التناقضات وصهرها، من دون أن ينعكس ذلك في ثقافة تعايشٍ فعليةٍ خارج إطار السياسة بمفهومها التقليدي. هل هو الاستقطاب التقليدي بين العلمانيين والإسلاميين الذي لا يزال يطفو على السطح أنه المحور الأساسي للانقسام، أم استمرار التهميش المناطقي الذي شكل أحد أبرز دوافع الثورة أو الأزمة الاقتصادية التي حالت دون تمتع التونسيين بفوائد الانفتاح أو تحول النظام الزبائني الذي كان محصورا بجماعة بن علي إلى شبكة معقدة من المصالح يلعب فيها الإعلام دورا أساسيا؟ تونس ليست تونس الماضي، لكنها أيضا ليست التي تخيلها قسم كبير ممن شاركوا في الحراك المؤيد للديمقراطية.
تقدّم المؤشرات الاقتصادية صورة قاتمة عن الحياة اليومية للمواطن التونسي، بما في ذلك، علي سبيل المثال، ارتفاع أسعار المحروقات، وارتفاع أسعار المواد الغذائية خلال شهر رمضان
تقول محدّثتي، وهي واحدةٌ من مجموعة من الصحافيين والصحافيات التقيت بهم في جولتي البحثية أخيرا في تونس، إن الحراك الشعبي في الجزائر والسودان يأخذ في الاعتبار ضرورة الحفاظ على الاستقرار. وتلك نقطة مهمة أغفلها الثوار التوانسة، وهي، في حديثها، تعكس حالة التضارب التقليدية بين كره النظام السابق والحاجة إلى ما كان يقدّمه من ضمانات هي أشبه بالأمان الذي يغدقه نظام أبوي سلطوي. تبدو العملية الديمقراطية السائرة بثباتٍ وهشاشةٍ في آن في تونس، بالنسبة لكثيرين ممن شاركوا فيها، وتوقعوا حياة أفضل، عملية فوقية معنية
أثبتت العملية الانتقالية في تونس قدرةً لافتة على الثبات في وجه تعاظم سطوة الثورات المضادة، وفشل تجارب الموجة الأولى للربيع العربي. إلا أن الصورة التي يقدّمها المجال العام الجديد هي أشبه بشبكةٍ معقدة من المصالح المتقاطعة، تعيد إنتاج النظام الزبائني القديم، حيث للمال ومنطق الصفقات اليد الطولى في تحديد مراكز النفوذ الجديدة. أن تكون الديمقراطية من فوق بخير، يحتفي بها الإعلام الدولي على أنها النموذج، في حين أنها مكروهة في حديث العامة، على أنها المسؤولة عن ضيق حالهم، فذلك خطر حقيقي على البلاد. شبح الديكتاتور الجديد "منقذ" البلاد من الفوضى ليس بعيدا.