04 نوفمبر 2024
الرئاسة التونسية ومدنية "النهضة"
أوردت صحيفة حكومية تونسية، قبل أيام، موقفا للرئيس الباجي قائد السبسي، خلال حوار أجرته معه، يفيد بأن حركة النهضة لم تتحول بعد حركة مدنية، وأنه أخفق في جلبها إلى ذلك، بل وإن تقييمه لم يكن صائبا. يأتي هذا الموقف بعد يومين من لقائه زعيم "النهضة"، الشيخ راشد الغنوشي، ما يرجح أن يكون ذلك رد فعل، بعد أن وقف الرئيس مباشرة على الهوّة التي تفصله عن حركة النهضة وشيخها تحديدا.
وفي كل الحالات، ليس من المصادفة أن تنشر صحيفة الصحافة الحكومية، يوم الإعلان عن تشكيلة هدا الحوار، فللحدث أكثر من دلالة، ولإدراك هذا كله، علينا استعراض جملة الأحداث والمواقف التي سبقت هذا التصريح، ومنها: التصريحات المتتالية أخيرا لبعض قيادات "النهضة"، وأهمهم الغنوشي ورئيس الكتلة النيابية في مجلس نواب الشعب نور الدين البحيري، فالأول دعا، في معرض تحليله أزمة التعليم في تونس، إلى ضرورة التفكير في إحياء الأوقاف، وهي التي منعت قانونيا وتم حلها مند سنة 1957، علها تكون دواء ناجعا لهذه المعضلة، في وقت يشهد فيه مستوى التعليم تراجعا مخيفا، ويجعلها تقلص موارد الدولة عاجزة عن سد النقص في موظفي التعليم في مناخ من السقوط في حافة الإفلاس. كما أن نور الدين البحيري أعاد الموقف نفسه تقريبا، بعد موجة ردود الأفعال الغاضبة التي صدرت عن دوائر اليسار والليبراليين، حين اتهموا الشيخ راشد الغنوشي، ومن معه، بمحاولة جر تونس مجدّدا إلى الخلف، وسحبها إلى عهود الظلام والتخلف.
الموقف الثاني، وهو الأخطر، أننا نعتقد بأنه يتعلق بدعوة السبسي، أخيرا، إلى النظر في مبادرة تشريعية تساوي بين الرجل والمرأة في الميراث. وقد عين لجنة خبراء لإعداد مسودة أولية في الغرض، وتحويلها ربما لاحقا إلى مبادرة تشريعية مكتملة، كما ينص الدستور على ذلك. وتعتقد دوائر مقربة من رئاسة الجمهورية أن "النهضة" لم تساند مبادرة الرئيس، وهو حليفها، بل ظلت متردّدة، وربما استنكرت قياداتٌ فيها الدعوة، واعتبرتها ضمنيا تحليلا لما هو حرام، على الرغم من أن "النهضة" أصدرت، في بيان رسمي، أن موقفها النهائي سيكون بعد الاطلاع على تفاصيل هذه الدعوة، حين تصبح مبادرة تشريعية مكتملة.
لقد أوحت حركة النهضة لبعضهم أنها تتحفظ على ذلك، خصوصا وقد وضعها الرئيس السبسي أمام اختبار قاس، وهي التي أعلنت، في مؤتمرها العاشر، أنها عازمة على فصل الدعوي عن السياسي، وأنها جادة في المضي في الخروج من الإسلام السياسي، والإقبال على إسلام ديموقراطي.
كل هذه العوامل قد تكون دفعت بالرئيس الباجي السبسي إلى التصريح بتحفظه على مدنية "النهضة"، وهي التي لم تسايره في ما اقترح، حتى لا تخسر أمام ناخبيها هويتها الأيدولوجية التي تعدها رأسمالها الرمزي، وهي المقبلة على استحقاقات سياسية وانتخابية، إذ لا تنسى أنها تعوّل، في ذلك كله، على خزّان انتخابي، يتكون من "مسلمين عوام"، متعاطفين على قاعدة الالتزام الديني بمعناه العام. كما أن موقف الرئيس يأتي في ظل شكوك من أن تكون "النهضة" تفكر في ترشيح أحد قياداتها للانتخابات الرئاسية في أفق سنة 2019، وقد يكون الغنوشي في ظل تسريبات أن الرئيس السبسي معني بهذه الانتخابات أيضا.
وبقطع النظر عن هذه الملابسات والسياقات التي دفعت رئيس الجمهورية إلى التعبير عن خيبته من فشل تحول "النهضة" إلى حركة مدنية، فإن الأمر أعمق من ذلك بكثير، ذلك أن التوافق الذي حصل هش وسطحي، وهو تحالف حكمٍ فرضته نتائج صناديق الاقتراع التي لم تعط لحزب الرئيس (نداء تونس) أغلبية مريحة، تمكّنه من تشكيل الحكومة بمفرده، وقد عبر الرئيس عن ذلك صراحةً، إذ لم يخف أنه ذهب إلى "النهضة" مكرها، من أجل تشكيل الحكومة وإنقاذ البلاد في سياق صعب.
بهذا التصريح القاسي، يحرص الرئيس قائد السبسي على التكفير عن ذنوبٍ يعتقد أنه اقترفها، خصوصا وأن طيفا مهما من ناخبيه وناخبي حزبه يعتقدون أنه، بتحالفه مع "النهضة"، كان قد خذلهم وتنكر لأصواتهم، بل وطعنهم في شرفهم السياسي.
ومع ذلك، علينا أن نهوّن شيئا ما من هذا التصريح الذي يلمع صورة الرئيس، حتى يبدو الحارس الأمين للعلمانية التونسية ومعبد بورقيبة الذي يرد إليه النمط المجتمعي، خصوصا في ظل تشرذم حزبه إلى شظايا تتناحر، وتتقاذف التهم، منها أن حزب نداء تونس ارتمى في أحضان "النهضة". لذلك عبرت الأخيرة، وبلغةٍ فيها كثير من الاحتفالية بدعمها التحوير (التعديل) الحكومي، وعزمها على المضي في توافق تراه استراتيجيا، لتجاوز الشرخ الثقافي الذي قد يهدد تونس، لو عاد الاستقطاب الثقافي مجددا. لذلك كله ظلت تداعيات تصريح الرئيس الباجي السبسي محدودة.
وفي كل الحالات، ليس من المصادفة أن تنشر صحيفة الصحافة الحكومية، يوم الإعلان عن تشكيلة هدا الحوار، فللحدث أكثر من دلالة، ولإدراك هذا كله، علينا استعراض جملة الأحداث والمواقف التي سبقت هذا التصريح، ومنها: التصريحات المتتالية أخيرا لبعض قيادات "النهضة"، وأهمهم الغنوشي ورئيس الكتلة النيابية في مجلس نواب الشعب نور الدين البحيري، فالأول دعا، في معرض تحليله أزمة التعليم في تونس، إلى ضرورة التفكير في إحياء الأوقاف، وهي التي منعت قانونيا وتم حلها مند سنة 1957، علها تكون دواء ناجعا لهذه المعضلة، في وقت يشهد فيه مستوى التعليم تراجعا مخيفا، ويجعلها تقلص موارد الدولة عاجزة عن سد النقص في موظفي التعليم في مناخ من السقوط في حافة الإفلاس. كما أن نور الدين البحيري أعاد الموقف نفسه تقريبا، بعد موجة ردود الأفعال الغاضبة التي صدرت عن دوائر اليسار والليبراليين، حين اتهموا الشيخ راشد الغنوشي، ومن معه، بمحاولة جر تونس مجدّدا إلى الخلف، وسحبها إلى عهود الظلام والتخلف.
الموقف الثاني، وهو الأخطر، أننا نعتقد بأنه يتعلق بدعوة السبسي، أخيرا، إلى النظر في مبادرة تشريعية تساوي بين الرجل والمرأة في الميراث. وقد عين لجنة خبراء لإعداد مسودة أولية في الغرض، وتحويلها ربما لاحقا إلى مبادرة تشريعية مكتملة، كما ينص الدستور على ذلك. وتعتقد دوائر مقربة من رئاسة الجمهورية أن "النهضة" لم تساند مبادرة الرئيس، وهو حليفها، بل ظلت متردّدة، وربما استنكرت قياداتٌ فيها الدعوة، واعتبرتها ضمنيا تحليلا لما هو حرام، على الرغم من أن "النهضة" أصدرت، في بيان رسمي، أن موقفها النهائي سيكون بعد الاطلاع على تفاصيل هذه الدعوة، حين تصبح مبادرة تشريعية مكتملة.
لقد أوحت حركة النهضة لبعضهم أنها تتحفظ على ذلك، خصوصا وقد وضعها الرئيس السبسي أمام اختبار قاس، وهي التي أعلنت، في مؤتمرها العاشر، أنها عازمة على فصل الدعوي عن السياسي، وأنها جادة في المضي في الخروج من الإسلام السياسي، والإقبال على إسلام ديموقراطي.
كل هذه العوامل قد تكون دفعت بالرئيس الباجي السبسي إلى التصريح بتحفظه على مدنية "النهضة"، وهي التي لم تسايره في ما اقترح، حتى لا تخسر أمام ناخبيها هويتها الأيدولوجية التي تعدها رأسمالها الرمزي، وهي المقبلة على استحقاقات سياسية وانتخابية، إذ لا تنسى أنها تعوّل، في ذلك كله، على خزّان انتخابي، يتكون من "مسلمين عوام"، متعاطفين على قاعدة الالتزام الديني بمعناه العام. كما أن موقف الرئيس يأتي في ظل شكوك من أن تكون "النهضة" تفكر في ترشيح أحد قياداتها للانتخابات الرئاسية في أفق سنة 2019، وقد يكون الغنوشي في ظل تسريبات أن الرئيس السبسي معني بهذه الانتخابات أيضا.
وبقطع النظر عن هذه الملابسات والسياقات التي دفعت رئيس الجمهورية إلى التعبير عن خيبته من فشل تحول "النهضة" إلى حركة مدنية، فإن الأمر أعمق من ذلك بكثير، ذلك أن التوافق الذي حصل هش وسطحي، وهو تحالف حكمٍ فرضته نتائج صناديق الاقتراع التي لم تعط لحزب الرئيس (نداء تونس) أغلبية مريحة، تمكّنه من تشكيل الحكومة بمفرده، وقد عبر الرئيس عن ذلك صراحةً، إذ لم يخف أنه ذهب إلى "النهضة" مكرها، من أجل تشكيل الحكومة وإنقاذ البلاد في سياق صعب.
بهذا التصريح القاسي، يحرص الرئيس قائد السبسي على التكفير عن ذنوبٍ يعتقد أنه اقترفها، خصوصا وأن طيفا مهما من ناخبيه وناخبي حزبه يعتقدون أنه، بتحالفه مع "النهضة"، كان قد خذلهم وتنكر لأصواتهم، بل وطعنهم في شرفهم السياسي.
ومع ذلك، علينا أن نهوّن شيئا ما من هذا التصريح الذي يلمع صورة الرئيس، حتى يبدو الحارس الأمين للعلمانية التونسية ومعبد بورقيبة الذي يرد إليه النمط المجتمعي، خصوصا في ظل تشرذم حزبه إلى شظايا تتناحر، وتتقاذف التهم، منها أن حزب نداء تونس ارتمى في أحضان "النهضة". لذلك عبرت الأخيرة، وبلغةٍ فيها كثير من الاحتفالية بدعمها التحوير (التعديل) الحكومي، وعزمها على المضي في توافق تراه استراتيجيا، لتجاوز الشرخ الثقافي الذي قد يهدد تونس، لو عاد الاستقطاب الثقافي مجددا. لذلك كله ظلت تداعيات تصريح الرئيس الباجي السبسي محدودة.