31 مايو 2021
السيسي ومحمد علي... المناظرة مستمرة
قبل أيام، شهدت استديوهات التلفزيون الرسمي في تونس مشهداً تاريخياً سيظل في أذهان التونسيين والعرب زماناً لما له من مكانة سياسية وديمقراطية، وهو عبارة عن مناظرة تاريخية بين معظم المترشحين لخلافة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي لسدة الحكم في ثاني انتخابات رئاسية يشهدها مهد الربيع العربي منذ ثورة يناير 2011.
وبينما كان التونسيون يقدمون درساً في الديمقراطية والتناظر بين مختلف الإيديولوجيات، كانت هناك مناظرة من نوع آخر غير متكافئة الفرص، لو وقف فيها المدعي وجهاً لوجه أما المتهم لكان مصيره الاختفاء القسري أو الموت وربما قبل أن يتحدث..
المناظرة الثانية أو المواجهة الرقمية عبر صفحات التواصل الاجتماعي، كانت بين الفنان ورجل الأعمال مالك شركة أملاك للعقارات، محمد علي الذي أراد من خلال فيديوهاته كشف المستور وفضح فساد قادة الانقلاب العسكري في مصر، ولا يمتلك الرجل الذي أراد أن يقود بلاده إلى بر ثان بعيد عن بر "احنا شعب وانتو شعب"، سوى جهاز صغير وصفحة على "فيسبوك" يتحدث من خلالها عن شهادته على الفساد والنهب في مصر، وليس من سمع كمن رأى..
بينما يمتلك خصمه الجيش والسلطة والسلاح والمال وعشرات المحطات الإعلامية، ناهيك عن تاريخه الأسود في ارتكاب المجازر بحق معارضيه، فما بالك بأن يسرق وينهب مال الشعب..
وبعد أسبوع من الفيديوهات التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في مصر وخارجها، للبطل الذي نجح فيما فشل فيه كثيرون، فكر السيسي ودولته ورجاله وقدروا، وخرجوا بمؤتمر للشباب غاب عنه الشباب بين مهجر وسجين ومقتول وكاره للعيش في وطنه وكافر بوطن يمتلكه المستبدون.
خرج السيسي أخيراً وليته لم يخرج ليعترف بجريمته وفساده، ويهدد ببناء قصور جديدة وبدولة جديدة، وكأنه يقول للجميع ما أريكم إلا ما أرى، ولا أبالي بأحد.. وذلك حال المستبدين.
في مقدمته التاريخية يقول ابن خلدون: "إن السلطان الجائر وحاشيته لا يتركون غنياً في البلاد إلا وزاحموه في ماله وأملاكه، مستظلين بحكمهم الجائر الذي صنعوه، فهم يدخلون في كل المجالات بما فيها التجارة والفلاحة، ويضرون مصالح الرعاية ويفسدون الجباية وينقصون للعمارة".
وكأن ابن خلدون يرى مصر السيسي ويكتب عنها وعن قياداتها الذين يبنون القصور، بينما يبحث الملايين عن مأوى..
يحتكرون التجارة والصناعة، ويكثر المعطلون أصحاب الشهادات من أبناء الشعب، ينصحهم السيسي ضاحكاً من قولهم لا تدخلوا أبناءكم الكليات إذا كانوا لن يحصلوا في الأخير على عمل..
لكأن السيسي يقرأ عن المستبدين عبر التاريخ ويقلدهم، غير أن الرجل فيما يبدو لم يقرأ عن نهايات أولئك المستبدين، لقد كان للاتحاد السوفياتي جيشه الأحمر، أقوى جيوش العالم، وانهار بسبب فساد قياداته وعدم اهتمامهم بمجالات أهمها التعليم والصناعة، كما فعل خصمهم اللدود الولايات المتحدة، وهو الخصم الذي سيطر من بعدهم على اقتصاد العالم ونفوذه، فمن من الحاضرين يبلغ السيسي أن أخطر عدو للإنسان هو الإنسان نفسه!
اللافت أيضاً في رد السيسي على فيديوهات النجم محمد علي التي أرعبته، هو ذلك الهلع من مواقع التواصل الاجتماعي التي يعتبرها عدوه، وهو هلع مفهوم وطبيعي وهو من صفات الحاكم المستبد التي أضفاها عليه الكواكبي في كتابه الأسطوري "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وقد صح قوله في السيسي أنه كلما ازداد الحاكم جوراً وظلماً واستبداداً زاد خوفه من رعيته وشعبه..
فكلما زاد فساد السيسي وظلمه للشعب زاد خوفه من السوشال ميديا، أما أتتك أنباء مشروع النائب في برلمان السيسي حينما قال إنه سيقدم مقترحاً بسن قانون يقضي بإعدام مروجي الإشاعات والكذب على مواقع التواصل الاجتماعي! تصور أن تصل عقوبة "بوست" لا يتعدى عشر كلمات إلى الإعدام!
أما الإشاعة فقد ثبتت بحسب "الديكتاتور المفضل" للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والاعتراف سيد الأدلة. السيسي لم ينفِ ما قاله محمد علي وخاصة ملفات الفساد المتعلقة به وبقادة القوات المسلحة.. لتبقى المناظرة مستمرة.
في ستينيات القرن الماضي، تعرض الكاتب والشاعر المصري الرائع أحمد فؤاد نجم للسجن إبان الحقبة الناصرية وكتب قصيدته الشهيرة شيد قصورك على المزارع من كدنا وتعب إيدينا..
كان ذلك في عهد عبد الناصر الذي وصفه الشاعر بأنه أحسن الديكتاتوريين الذين مروا بمصر من السادات إلى مبارك، فقد عرف عن جمال عبد الناصر وطنيته وحبه لمصر ونزاهته المالية، وإن كان ديكتاتوراً ومستبداً، إلا أنه مات ولا يمتلك من قصور مصر شيئاً، فرحم الله عبد الناصر ما أعدله لو قورن بالسيسي الذي شيد القصور لعائلته وأصدقائه، بل وأكد أنه سيشيد أخرى وسيستمر في منهجه وأنه لا يخاف من ما يشاع.
إنها دولة السيسي الجديدة التي قال إنه سيبنيها، وهي دولة الفرد الواحد، يمثل السيسي فيها السياسة والاقتصاد ويمتلك السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية، إنها دولة تقوم على الاستبداد وتتغذى بالدم وتعيش من الفساد وتحارب الشائعات وتهتز من مواطن مصري مغترب بسبب الظلم، لا يمتلك سوى هاتف ولسان.. وأي قوة أشد على السلطان الجائر من كلمة الحق..
لقد أفزعت كلمات محمد علي نظام السيسي أكثر مما أفزعته عشرات القنوات المعارضة، والصفحات، ومئات التظاهرات، فاهتز لها عرش السيسي وأقرانه، ولولا خوفهم من الوعي الشعبي لكان التجاهل يكفيهم، فقد تجاهلوا أشياء كثيرة، منها أمن مصر واستقرارها ومكانتها، وأخيراً شعبها العظيم وتاريخها..
فلتبقَ المناظرة بين المواطن والرئيس، وبين السوشال ميديا والأذرع الإعلامية، أو على الأصح بين السيسي ومحمد علي مستمرة.. وسنكون بانتظار ما سيكشفه الفنان والبطل، الذي يبدو أن في جعبته الكثير من الملفات التي تدين نظام السيسي المدان من طرف المنظمات الحقوقية والإنسانية..
فـ"يا مصر قومي وشد الحيل" فأنت أكبر من الطغاة والمستبدين على مر العصور والتاريخ.