كثفت سلطات الرقابة المالية في بريطانيا خلال العام الجاري، رقابتها على جرائم المتاجرة في سوق المال من خلال الحصول على معلومات داخلية من الشركات المسجلة في البورصة، والتي يطلق عليها" المتاجرة من الداخل" أو استغلال المعلومات الداخلية.
وهذه المتاجرة من الداخل أو"الصفقات الحرام" في عرف المنافسة الحرة، كلفت أسواق المال مليارات الدولارات، وكادت أن تفقد الثقة في التعامل والأداء المالي ونزاهة البورصات العالمية.
وظل بعض كبار تجار سوق المال في الدول الغربية ستغلون المعلومات الخاصة التي يحصلون عليها من مديرين ورؤساء تنفيذيين، في بعض الشركات في المتاجرة بالأسهم وتحقيق أرباح طائلة، لأنها تتيح لهم التوقع الدقيق لتحركات سعر سهم شركة ما، مقارنة مع منافسيهم الآخرين. وخلال العام الجاري أدين العديد من تجار الأسهم في لندن ونيويورك وبورصات عالمية أخرى بالعديد من جرائم "المتاجرة من الداخل".
من بين هؤلاء المضارب السابق في صندوق التحوط "مور كابيتال" جوليان رفعت الذي مرر معلومات لبعض المتاجرين في أسهم الصندوق، تسببت في حصول أحدهم على أرباح قدرها 250 ألف جنيه إسترليني "نحو 400 ألف دولار" في يوم واحد.
وتقول لائحة الاتهام، أن رفعت مرر معلومات مالية حساسة إلى إحدى شركات الوساطة، واستفادت شركة الوساطة من هذه المعلومات في تحقيق أرباح. واعترف المضارب رفعت لاحقا بالتهم التي وجهت إليه، ومن المحتمل أن يصدر عليه الحكم خلال العام المقبل.
ومن بين المتهمين بالمتاجرة من الداخل في سوق لندن، الذين صدرت بحقهم إدانات قضائية وحكم عليهم بالسجن، بول ميلسوم الذي كان من كبار تجار الأسهم في شركة" ليجل آند جنرال" الذي حكم عليه بالسجن لمدة عامين في مارس/آذار الماضي.
اعترف ميلسوم، البالغ من العمر 45 عاماً، أثناء المحاكمة، بأنه مرر معلومات مالية من شركته "ليجال آند جنرال" إلى وسيط خارجي، ضمن عملية احتيال مرتبة حصل منها على مبلغ 245 ألف جنيه إسترليني.
وحسب وقائع المحكمة في لندن، فإن ميلسوم والوسيط التجاري الذي يدعى شيللي، كانا يتحدثان عبر هاتف موبايل يستخدمان شريحة "الدفع على قدر المكالمة" التي يصعب رصد صاحبها. وبدل ميلسوم الشريحة خمس مرات أثناء المكالمة، حتى لا يتم تعقبه. وفي أثناء هذه المكالمة كان يمنح معلومات للوسيط الذي كان يتاجر في نفس اللحظة في أسهم الشركة. وفي نهاية اليوم تقاسما حصيلة الربح المضمون الذي بلغ 400 ألف جنيه إسترليني.
أميركا: غش في التداولات
في أميركا، حيث تزدهر أسواق المال ترتفع كذلك عمليات الغش التجاري المرتبطة بالتداول في الأسهم، بناء على معلومات مسبقة يتلقاها تجار الأسهم من كبار المسؤولين في الشركات. ورفعت سلطات البورصة الأميركية في الآونة الأخيرة من رقابتها وتعقب جرائم المتاجرة من الداخل.
ومن الجرائم الشهيرة في سوق "وول ستريت" جريمة راجا غوبتا، أحد مديري صناديق التحوط في نيويورك التي أدين فيها بجريمة المتاجرة من الداخل في أسهم شركة "إيه إم دي".تعود الجريمة المالية إلى صبيحة الحادي والعشرين من يوليو/تموز العام 2009، حيث باع غوبتا، ثلث الأسهم التي اشتراها في شركة "إيه إم دي" الأميركية العملاقة للتقنية، البالغة نحو 330 ألف سهم.
وبعد ساعات من الصفقة أعلنت الشركة عن نتائجها للربع الثاني، حيث أعلنت أنها خسرت 330 مليون دولار، وأن دخلها انخفض بنسبة 13%. وبهذه الصفقة تفادى المدير خسائر قدرت بنحو 140 ألف دولار.
كان يمكن أن تمضي الصفقة على أساس أن غوبتا رجل محظوظ أو أنه ذكي، لكن سلطات البورصة حينما حققت في ملابسات الصفقة، اكتشفت أن راجا غوبتا، أجرى مكالمة مع أحد مديري شركة "إيه إم دي" قبل تنفيذ عملية البيع بدقائق. وحينما تمت محاكمة غوبتا في نيويورك ، اكتشفت المحكمة أن هذه الصفقة ليست الوحيدة التي تلاعب فيها بالبورصة وإنما هنالك صفقات أخرى جنى منها أرباحاً من عمليات المتاجرة من الداخل بلغت قيمتها أكثر من 63 مليون دولار.
وحتى نهاية العام الماضي حققت سلطات البورصة الأميركية في مئات من عمليات المتاجرة من الداخل، وأدين أكثر من 207 متداولين في قضايا المتاجرة بناء على معلومات داخلية.
وتلقى المدانون بهذه التهم عقوبات بلغ متوسطها من 3 أشهر إلى 17 شهرا، بعد أن كانت تترواح ما بين شهر وحد و13 شهراً في السنوات الخمس السابقة، أي بزيادة 31.8%.
وبعد مرور عام على قضية غوبتا أصدر قاض في نيوجيرزي حكما بالسجن 12 عاماً على ماثيو كلوجر، المحامي السابق المختص في شؤون الشركات، الذي اتهم بتقديم معلومات غير قانونية في قضية بلغت أرباحها 37 مليون دولار.
وتتباين الآراء داخل الجهاز القضائي في أميركا، حول العقوبات الصادرة ضد المتداولين الذين أدينوا بجرائم المتاجرة من الداخل، إذ يقول بعض القضاة إن تشديد العقوبات مهم للردع، بينما يرى آخرون أن العقوبة أكبر من الجريمة.
وتبنت لجنة الأحكام في البورصة الأميركية تعديلات دخلت حيز التنفيذ في نوفمبر 2012، زادت عقوبة الجرائم التي يقوم فيها المتهمون بأعمال مدبرة أو متكررة للتداول بناء على معلومات داخلية.
مخاطر المتاجرة من الداخل
تفشي ظاهرة التداول على معلومات داخلية يؤدي إلى إضعاف ثقة المستثمرين بالسوق المالي، لذلك حرصت التشريعات العالمية على التشديد في العقوبات الخاصة بهذه الجريمة لدعم نزاهة الأسواق وعدالتها.
وفي الأسواق العربية تنبهت بعض الدول إلى معالجة ظاهرة التداول من الداخل، ففي الكويت مثلاً، تنص المادة 139 من قانون الشركات التجارية على حظر تداول عضو مجلس الإدارة لأسهمه في الشركة طوال مدة عضويته، مما يمثل قيداً غير ضروري على الأعضاء، ومما قد يؤدي إلى التفافهم على القانون. فمعظم الدول الأخرى قامت بوضع ضوابط على تداول الأعضاء أو المديرين لضمان عدم التلاعب أو المضاربة.
وفي البورصة السعودية، تنص اللوائح على أنه لا يجوز لأعضاء مجلس الإدارة أو لكبار التنفيذيين أو أي شخص ذي علاقة بهم، تداول السهم خلال 10 أيام، قبل انتهاء الربع السنوي المالي وحتى تاريخ إعلان ونشر النتائج الأولية للشركة، كما تمنع اللائحة كذلك عدم تداول أسهم الشركة خلال 20 يوما، قبل انتهاء السنة المالية وحتى تاريخ الإعلان المبدئي للنتائج السنوية للشركة، أو الإعلان النهائي للنتائج السنوية للشركة أيهما أقصر بالنسبة للمديرين وكبار التنفيذيين بالشركة ومن لهم علاقة بهم.
مقابل ذلك نصت القوانين الأميركية على حظر تداول الأعضاء خلال فترة 6 أشهر من تاريخ آخر صفقة لمنع المضاربة، بالإضافة إلى ضرورة الإفصاح عن الصفقات الخاصة بأسهم الشركة التي يحملون عضويتها للهيئة الرقابية قبل القيام بها.