الصهيوني الصغير ومعركة الأردن الوجودية
جاء إيقاف رسّام الكاريكاتير لصحيفة العربي الجديد، الزميل عماد حجّاج، الذي أُطلق لاحقاً، في سياق التغيّر الأخير في موقف الأردن، حيث تحوّل إلى مقاربة سياسية مع محور أبوظبي، بعد حالة شدّ وجذب لا تزال قائمة، كما هي لغة الخطاب التي وُجهت للأمير علي بن الحسين، على خلفية انتقاده تبنّي أبوظبي رسمياً مشروع تطبيع الفكرة الصهيونية، والتي دائماً نُذكّر بها، وأنها أشد خطورةً من التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وإنْ كان التشارك بنيوياً في المسارين، غير أن مشروع التثقيف الصهيوني لعرب المنطقة يعتمد نزع التاريخ والتشريع الإسلامي، والهوية العربية وشيطنة العرب، وليس الفلسطينيين وحسب، مقابل المدح والثناء على منظومة العقيدة الصهيونية، فهو نوعٌ من الرّدة الفكرية الشاملة التي تُصنف مهنياً بالثقافة العميلة القبيحة، ويسعى محور أبوظبي إلى تطبيع الناس في الخليج على قبولها. وهو ما لا توجد له قاعدة شعبية تستحق الإشارة، على الرغم من أن الضغط الشرس والتوظيف، يُظهران لبقية العرب عبر كومة عملاء وموظفين، أنها ثقافة حقيقية على الأرض في الخليج العربي، وأقاليم السعودية، وهذا غير صحيح. ولذلك ندعو دائماً إلى وحدة المجتمع العربي، وعدم السقوط في وكر خديعة المشروع الصهيوني لمحور أبوظبي، وصمود روح الوحدة العربية، المقاومة للفكرة الصهيونية، من المحيط إلى الخليج.
مشروع تطبيع الفكرة الصهيونية أشد خطورةً من التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وإنْ كان التشارك بنيوياً في المسارين
أما الأردن فله قصة مختلفة، فهو أدرك، عند بدايات تسويق "صفقة القرن"، أنها تهدّد بإسقاط الحكم الهاشمي، سواء عبر إعلان وطن قومي بديل للشعب الفلسطيني، أو حتى عبر مشروع تهجير ممنهج، لبقية الشعب الفلسطيني، وتحويلهم إلى الأردن، وتحريك الصراع الاجتماعي بين مكونات الشعب الأردني، غير أن عَمّان تعرّضت لهجوم شامل ممنهج، استهدف البيت الملكي، ودخل في خصوصياته الاجتماعية، وهو ما انعكس على الموقف الأخير. وبالتالي، فسح الأردن للعاصفة أن تعبر، فكيف يَفسح لها، وقد تقتلع وجوده. والحقيقة أن تاريخ السياسة الخارجية للأردن، وخصوصا في عهد الملك حسين، خضع لمعادلات تموضع متعدّدة، ومتناقضة في بعضها، غير أنها كانت تعبر بالعرش الهاشمي، في سياق الحدود القومية التي سمحت بها معركة ما بعد ثورة الشريف الحسين بن علي، ضد العثمانيين، والموقف الغربي الموجه لها.
طبيعة العقل الصهيوني الخبيث المُخَطِّط أنه يعطي مصطلحاتٍ، ثم يُفرّغها من محتواها، ثم يسقط المصطلح ذاته، ومسيرة "أوسلو" كافية للدلالة في هذا الصدد
اليوم، يتبنّى الصهيوني الصغير، جاريد كوشنر، رسائل نتنياهو المكثفة، باعتبار أن مشروع أبوظبي- كوشنير يُغرق فلسطين كلياً في النهر. وبالتالي هناك خطابات وتغطيات مكثفة، لتحويل الأردن، بمسماه أو مسمّى الأرض الفلسطينية الكبرى التي ستحسمها نهايات المشروع، بحيث تكون عمّان عاصمة لها، وإن كانت طبيعة العقل الصهيوني الخبيث المُخَطِّط أنه يعطي مصطلحاتٍ، ثم يُفرّغها من محتواها، ثم يسقط المصطلح ذاته، ومسيرة "أوسلو" كافية للدلالة في هذا الصدد، فحين أدرك أبو عمّار هذه المرحلة، واجهها ودفع حياته في رحلة الحصار الذي صفّاه الصهاينة فيها، أمام العالم المنافق الذي صفّق له، حين توقيع سلام الذئاب المخادع في واشنطن. وبالتالي، هنا حسابات الأردن دقيقة، فمع وجود قدرة مناورة فائقة للملك حسين، فإنه كان يتمتّع بعلاقات اجتماعية وتأمين سلامة المعارضة المقنّنة، وإرخاء الحبل فوراً، وهو ما ساعد سياسته للعبور، وللجسم القومي للأردن في البقاء. أما اليوم، فإن حالة الاحتجاجات النقابية والشعبية، والتوتر مع الإسلاميين وغيرهم، تتصاعد. فكيف يستطيع الأردن أن يصمد؟ ولنُلاحظ هنا أن الزناد الظبياني، ومخالبه القوية في السعودية وغيرها، لم يكفّ عن الضغط على الأردن، خصوصا بعد قضية حاكم دبي محمد بن راشد والأميرة هيا بنت الحسين، وهو يمارس هذا الضغط في ظل سياق مركزي للفكرة الصهيونية لإعادة صناعة الأردن وطنا بديلا.
حالة الاحتجاجات النقابية والشعبية، والتوتر مع الإسلاميين وغيرهم، تتصاعد. فكيف يستطيع الأردن أن يصمد؟
إلى أي حد ستعبر مناورة عمّان اليوم، لتكون قادرةً على الاحتواء؟ وإلى أي حدٍّ ستمثل لها دحرجة عكسية خطيرة، تهدّد بقاء الأردن أو بقاء الحكم الهاشمي فيه، في ظل صراع المشروع الصهيوني، وحاجته لزحزحة بعض أحجار الأرض العربية؟ في حين أن تمسُّك الأردن بمجرد رفض مشروع الصهيوني الصغير، ولو موقفا سياسيا عاما، يدعمه الشارع الشعبي، هو في ذاته يمثل جسر عبور للأردن، تتقاطع مصالحه مع بقاء قضية فلسطين، وهذا بالطبع يحتاج أيضاً للانفتاح على ثورة الغضب المعيشية في الشارع الأردني.
أمام الأردن أيضاً إعادة فهم صورة التوسّع الصوري لمحور أبوظبي، في مسار التوافقات السياسية مع الدول العربية والإقليمية، فالمحور سرعان ما يخذل من يتكئ عليه، ليس في اليمن فقط، حيث يفكّك شرعيته وأرضه، ويعقد صفقته مع طهران، ولكن في نموذج باكستان والمغرب وتونس وغيرها. وهو ما يعني أن الأرضية هشّة جداً لاتكاء الأردن، المعرّض أن يُترك لمصيره لو فاز ترامب مجدّداً رئيسا للولايات المتحدة، وإن كان الفارق هنا هو شخصية الصهيوني الصغير، جاريد كوشنر، وليس خلافاً استراتيجياً مع الحزب الديمقراطي.
هنا زلّة قدم عمّان ستكون مكلفة، وهي تعيش حالة الفوضى المستمرّة في كل محيطها، في معركة الصراع المعقدة بين حلفاء تصفية الثورة السورية، وارتداداتها على الأردن، وواقع العراق الذي تعيد فيه إيران رصّ صفوفها، لمنع التعديل الأميركي من التوسّع، وضمان هيمنتها المطلقة على مصالح العراق وثقافة شعبه، والانفجار اللبناني الكبير سياسياً، بعد أن دمّرت النترات مرفأ بيروت.
المحصلة هنا أن الأردن غير مضطر، على الرغم من الضائقة الاقتصادية عليه. ربما كانت عمّان قلقةً من رسالتها الإعلامية الموسمية التي بُثت من خلال صراع أزمة الخليج، عن تاريخ الأشراف في الحجاز، وعودته لهم بعد سقوط السعودية، وهي رسالةٌ كان يُعرف، من البداية، أنها مجرّد ورقة ضغط موسمي لا أكثر، وبالتالي عاد الأردن إلى استرضاء السعودية. والحقيقة أن حسابات هذه المرحلة دقيقة جداً، فلا تحتمل المراهنات، ولا الخضوع لإرادة محور أبوظبي والرياض، فتسقط خريطة الأردن في جغرافيا الصهيوني الصغير.