15 نوفمبر 2024
الضحية القاتلة
"هل تريدين أن تبقى حلب تحت حكم داعش والنصرة؟". بهذه الجملة الساذجة، يجيبك مثقفون عرب، يساريون وقوميون، يهللون لما يسمى انتصار حلب وعودتها إلى حضن الوطن، عندما تتحدّث عن الضحايا المدنيين الذين يسقطون بالمئات، بسبب قصف الطائرات الروسية وطائرات النظام القسم الشرقي من المدينة، بذريعة التخلص من الإرهابيين. يذكّرك هؤلاء بمثقفين سوريين علمانيين، حاججوك واتهموك بالخيانة يوم اعترضت على التحرير الأول للمدينة على أيدي الكتائب الجهادية الممولة من دول مختلفة، والتي صرّحت دائما أن الحرية كفرٌ مبين، وأن هدفها إقامة شرع الله وخلافته، لا الدولة المدنية الديموقراطية. تجد نفسك فجأة محشوراً بين خيارين اثنين، وعليك المفاضلة بينهما: إما أن تكون مؤيداً للاستبداد والفاشية الدينية بشكلها (الثوري)، طالما أنك ضد النظام وحلفائه، أو أن تكون مؤيداً للاستبداد والفاشية العسكرية والأمنية، بشكلها الإجرامي الحالي، طالما أنت ضد الاستبداد الديني!
كشفت هذه المفاضلة المفترضة الممتدة، على خجل، منذ أعوام، عن وضوحها في الأيام القليلة الماضية. مثقفون عرب كثيرون لم يتمكّنوا من إخفاء سعادتهم، وهم يرون طائرات الروس تقصف الأحياء الشرقية من حلب، مخلفة مئات الضحايا يومياً. لم يستطيعوا وقف تهليلهم لتصفية الهاربين من الموت المؤكّد تحت القصف، الهاربون مع أطفالهم الذين وجدوا مليشيات النظام وحزب الله والمليشيات الطائفية العراقية تحاصر هروبهم، وتقتلهم بدمٍ بارد، وكأن القتل مهنة يمارسونها يومياً، وكأن المهللين معجبون بالإبداع الذي يميز هؤلاء القتلة، هل يختلف ذلك عن إبداع داعش الإجرامي، وهل يختلف المعجبون بداعش عن هؤلاء؟
يبدو أن أسئلة العقل في زمن الدم المفلت من عقاله لا صوت لها، ولا مكان لتصبّ فيه، إذ يرفض الممعنون في غبطتهم سماع ما تقوله وما تكتبه، ولماذا سيستمعون إليك، وهم لا يرون في الضحايا المدنيين سوى طقسٍ متممٍ لنشوة الفرح التي يملأون بها الفراغات في أرواحهم، فبدون ضحايا حقيقيين، وبدون دمٍ حقيقي، يرفعون نخب سافكيه، لن تموت الضحية التي في داخلهم، إذ هم ليسوا أكثر من بؤساء وضحايا تواريخهم الشخصية وانحيازاتهم الأيديولوجية الحزبية والمذهبية الدينية، فكيف ستطلب ممن يرى في روسيا نظاماً تقدمياً إشتراكياً يقف في مواجهة أميركا الرأسمالية أن يوصّف ما يفعله الروس في سورية بوصفه الحقيقي: دولة محتلة لا تختلف عن أي احتلال قديم أو حديث، كيف ستقنع من وجد نفسه عارياً بعد سقوط منظومة الاتحاد السوفيتي أن روسيا ليست هي الاتحاد السوفيتي، وأنها حالياً تحتل مقعداً على طاولة المافيات الحاكمة للعالم، وأن سلوكها مبني على تحالفاتها مع هذه المافيات؟
أو كيف ستقنع من عاش حياته على أمجاد قضية فلسطين وميزته مظلوميتها المحقّة، أن ثمة ضحايا آخرين ومظلومية أخرى جديدة أشدّ هولاً ورعباً من المظلوميات السابقة؟ كيف ستقنع من غطت هويته المذهبية على ثقافته وإبداعه أن السوريين ليسوا هم قتلة الحسين، وليسوا هم من اجتمعوا قبل ما يقارب الألف والخمسمئة عام في سقيفة بني ساعدة؟ كيف ستقنع المثقف الذي يعاير نساء حلب بحجابهن، ويعتبره دليلاً على انتمائهن للإرهاب، أن الحجاب الذي تضعه زوجته وأخته وأمه ونساء وطنه على اتساعه، لا يختلف عن حجاب الحلبيات، (مثقف مصري قال لي انظري إلى لباس النساء في حلب الشرقية، وأشكالهن، كلهن إرهابيات)!
كيف ستقنع كل هؤلاء أن عليهم التصالح مع تواريخهم وهوياتهم وانتماءاتهم، كي يقتلوا الضحية بداخلهم، الضحية التي تبني بينهم وبين الإنسانية جدراناً من الذل والخنوع والعبودية وضيق الأفق؟ كيف ستقنعهم أن الإنسانية تسبق الموقف السياسي، وتسبق الانحيازات الضيقة، وتسبق الرؤية الناقصة، وأنها تحتاج إلى أرواح ممتلئة، ترى في حق الإنسان في الحياة قيمةً كبرى، مهما كان انتماؤه وهيئته وملبسه وعقيدته، كيف ستقنع مثقفاً أو مبدعاً يرى في قتل المدنيين انتصاراً يستحق الاحتفال، لمجرد أن هؤلاء المدنيين فقراء تخلى عنهم الجميع، فتمسّكوا بحبل الدين كالغرقى؟ كيف ستقنع هؤلاء أن يرسلوا ضمائرهم إلى غرف الإنعاش، ما دام ثمّة سوريون كثيرون يحتفلون بقتل إخوتهم، وما دام هناك شواهد في التاريخ البشري عن مثقفين ومبدعين فاشيين وقتلة؟
كشفت هذه المفاضلة المفترضة الممتدة، على خجل، منذ أعوام، عن وضوحها في الأيام القليلة الماضية. مثقفون عرب كثيرون لم يتمكّنوا من إخفاء سعادتهم، وهم يرون طائرات الروس تقصف الأحياء الشرقية من حلب، مخلفة مئات الضحايا يومياً. لم يستطيعوا وقف تهليلهم لتصفية الهاربين من الموت المؤكّد تحت القصف، الهاربون مع أطفالهم الذين وجدوا مليشيات النظام وحزب الله والمليشيات الطائفية العراقية تحاصر هروبهم، وتقتلهم بدمٍ بارد، وكأن القتل مهنة يمارسونها يومياً، وكأن المهللين معجبون بالإبداع الذي يميز هؤلاء القتلة، هل يختلف ذلك عن إبداع داعش الإجرامي، وهل يختلف المعجبون بداعش عن هؤلاء؟
يبدو أن أسئلة العقل في زمن الدم المفلت من عقاله لا صوت لها، ولا مكان لتصبّ فيه، إذ يرفض الممعنون في غبطتهم سماع ما تقوله وما تكتبه، ولماذا سيستمعون إليك، وهم لا يرون في الضحايا المدنيين سوى طقسٍ متممٍ لنشوة الفرح التي يملأون بها الفراغات في أرواحهم، فبدون ضحايا حقيقيين، وبدون دمٍ حقيقي، يرفعون نخب سافكيه، لن تموت الضحية التي في داخلهم، إذ هم ليسوا أكثر من بؤساء وضحايا تواريخهم الشخصية وانحيازاتهم الأيديولوجية الحزبية والمذهبية الدينية، فكيف ستطلب ممن يرى في روسيا نظاماً تقدمياً إشتراكياً يقف في مواجهة أميركا الرأسمالية أن يوصّف ما يفعله الروس في سورية بوصفه الحقيقي: دولة محتلة لا تختلف عن أي احتلال قديم أو حديث، كيف ستقنع من وجد نفسه عارياً بعد سقوط منظومة الاتحاد السوفيتي أن روسيا ليست هي الاتحاد السوفيتي، وأنها حالياً تحتل مقعداً على طاولة المافيات الحاكمة للعالم، وأن سلوكها مبني على تحالفاتها مع هذه المافيات؟
أو كيف ستقنع من عاش حياته على أمجاد قضية فلسطين وميزته مظلوميتها المحقّة، أن ثمة ضحايا آخرين ومظلومية أخرى جديدة أشدّ هولاً ورعباً من المظلوميات السابقة؟ كيف ستقنع من غطت هويته المذهبية على ثقافته وإبداعه أن السوريين ليسوا هم قتلة الحسين، وليسوا هم من اجتمعوا قبل ما يقارب الألف والخمسمئة عام في سقيفة بني ساعدة؟ كيف ستقنع المثقف الذي يعاير نساء حلب بحجابهن، ويعتبره دليلاً على انتمائهن للإرهاب، أن الحجاب الذي تضعه زوجته وأخته وأمه ونساء وطنه على اتساعه، لا يختلف عن حجاب الحلبيات، (مثقف مصري قال لي انظري إلى لباس النساء في حلب الشرقية، وأشكالهن، كلهن إرهابيات)!
كيف ستقنع كل هؤلاء أن عليهم التصالح مع تواريخهم وهوياتهم وانتماءاتهم، كي يقتلوا الضحية بداخلهم، الضحية التي تبني بينهم وبين الإنسانية جدراناً من الذل والخنوع والعبودية وضيق الأفق؟ كيف ستقنعهم أن الإنسانية تسبق الموقف السياسي، وتسبق الانحيازات الضيقة، وتسبق الرؤية الناقصة، وأنها تحتاج إلى أرواح ممتلئة، ترى في حق الإنسان في الحياة قيمةً كبرى، مهما كان انتماؤه وهيئته وملبسه وعقيدته، كيف ستقنع مثقفاً أو مبدعاً يرى في قتل المدنيين انتصاراً يستحق الاحتفال، لمجرد أن هؤلاء المدنيين فقراء تخلى عنهم الجميع، فتمسّكوا بحبل الدين كالغرقى؟ كيف ستقنع هؤلاء أن يرسلوا ضمائرهم إلى غرف الإنعاش، ما دام ثمّة سوريون كثيرون يحتفلون بقتل إخوتهم، وما دام هناك شواهد في التاريخ البشري عن مثقفين ومبدعين فاشيين وقتلة؟