خلقت الضربة الأميركية، دينامية جديدة للأزمة السورية. غيّرت حسابات وقواعد لعبتها. تركتها معلّقة بين المزيد من التصعيد والتعقيد، وبين إمكانية تعويم الدبلوماسية. انعكس ذلك في طوفان الردود الأميركية التي أيّدت يأغلبها بشكل عارم قرار الرئيس دونالد ترامب، بين من دعا إلى وشجع على توسيع دائرة القصف، ومن أوصى بالتريث لانتظار معرفة رد الفعل الميداني، في حين أنّ قلة قليلة اعترضت أو تخوّفت على القوات الأميركية المتواجدة داخل سورية، بينما تبدو الإدارة الأميركية مؤيدة للرأي الثاني.
"مستعدون لفعل المزيد" قالت السفيرة الأميركية نيكي هالي، في مجلس الأمن الدولي. هو تحذير من عواقب الرّد على الضربة، يحتمل التأويل. تأويل أنّ الإدارة ليست في وارد الاصطدام المباشر مع النظام السوري، أو أنّ ما حصل ليس غير البداية في مواجهة غير مباشرة وطويلة.
ولا تخفي بعض دوائر حقل السياسة الخارجية، خشيتها من أن تتطوّر العملية لتؤدي إلى الدوران في دوامة "الرّد والرّد على الرّد". احتمال دفع ببعض الجهات في الكونغرس إلى المطالبة بفتح نقاش حول الموضوع، وإشراك مجلسي الشيوخ والنواب في القرار حوله.
وتنطوي مثل هذه الدعوة على تخوّف من "الانزلاق" إلى مواجهة أكبر أو إلى "تورّط" مديد. والمعروف أنّ الدستور يخوّل الكونغرس "وحده" إعلان الحرب. ولو أنّ هذا الأخير لم يمارس هذا الدور منذ الحرب العالمية الثانية عندما أعلنها على اليابان. ترك للرئيس حرية التصرّف العسكري لفترة شهرين قابلة للتجديد. وهذا ما يمارسه الرئيس ترامب الآن في سورية.
ومن هنا استحضرت الضربة هاجس التورّط المكلف في العراق. بل يصحّ أن تستحضر سيناريو ما سمعه صدام حسين من السفيرة الأميركية عشية غزوه للكويت. فما سمعه النظام السوري من البيت الأبيض وأركان في الإدارة، قبل ثلاثة أيام من الضربة، هو في مضمونه نفس ما قالته السفيرة للرئيس العراقي آنذاك.
تشجيع غير مباشر وبما يؤدي إلى الوقوع في شرك فخ ربما يكون قد جرى نصبه بعناية، وعن سبق تصوّر وتصميم. ذلك أنّه يصعب، إن لم يكن يستحيل، اعتماد التفسير الذي قدّمته الإدارة الأميركية لانكفائها بعد 48 ساعة عن موقفها بالنأي عن الوضع السوري، ومصير رئيسه بشار الأسد، الذي تركته للشعب السوري للبتّ بشأنه. زعمها بأنّها تأثرت بمشهد ضحايا الكيماوي في خان شيخون، لا يسوّغ الالتفاف 180 درجة، وقبل أن يجفّ حبر موقفها الصريح، للقيام بعملية بهذا الحجم. لاسيما أنّها الضربة الأميركية الأولى من نوعها في تاريخ الأزمة السورية. ثم إنّ الحرب السورية حافلة بالمآسي التي لم تحرّك أحداً لمثل هذا الرّد.
في ضوء ذلك، يجوز الاعتقاد بأنّ الضربة، تندرج على الأرجح في خانة سعي الإدارة إلى خوض مواجهات محدودة في الخارج، تكون من الصنف الذي يجري توظيف مردوداته في الداخل، وبما يساعد الرئيس ترامب على تجاوز أزمات إدارته. ووفق هذا السيناريو، فإنّ إيران هي المعنية بالنهاية من هذا التصعيد في سورية. ويأتي ذلك في إطار العمل على تطويق النفوذ الإيراني، والتصدّي لمواقعه في المنطقة.
ومن هنا كان رفع القيود عن بيع السلاح للسعودية، لتمكينها من التفوّق في حربها في اليمن، مع النظر جدياً في تقديم الدعم اللازم لاستعادة ميناء الحديدة من يد الحوثيين. كما كانت الزيارات الأخيرة للعراق، والتي قام بها وزير الدفاع جايمس ماتيس، ثم رئيس الأركان جوزيف دانفورد، ومعه مستشار الرئيس وصهره جاريد كوشنر، لتطمين القيادة العراقية، في ظل تنامي الدعوات الأميركية لتقليص الدور الإيراني في العراق.
ومؤخراً جاء دور سورية، وزيادة عدد القوات الأميركية فيها استعداداً لاسترداد مدينة الرقة من سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، مع تزايد الحديث عن القوى المدعومة من إيران في سورية، والتوعّد بتسوية الحسابات معها.