31 أكتوبر 2024
العدالة الانتقالية... ورشة عربية مؤجلة
لا تزال العدالة الانتقالية إحدى الأوراش العربية المؤجلة، على الرغم من الإرث الثقيل من الانتهاكات وأعمال العنف التي شهدتها المنطقة لعقود طويلة. وفي وقت انبرت فيه بلدان كثيرة في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وأفريقيـا وآسيـا لمعالجة الانتهاكات التي شهدتها في الماضي، وإرساءِ مصالحات متوافَق عليها، ظلت الجغرافيـا العربية، في معظمها، بعيدة عن خوض هذا الرهان لأسباب كثيرة. وباستثناء المغرب وتونس، لم تمتلك النخب العربية، سلطةً ومعارضةً، النضجَ والشجاعةَ الكافيين لمعالجة الانتهاكات وأعمال العنف التي ارتكبت في الماضي، وتحويلها إلى موردٍ لإرساء مصالحةٍ وطنية، تكون مدخلا نحو التحول الديمقراطي.
ضمن هذا الأفق، خصص المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أشغالَ مؤتمره السنوي، الذي يعنى بقضايا التحول الديمقراطي، للعدالة الانتقالية وما ترتبط به من قضايا على صلة بالسياسة والتاريخ والذاكرة. وتكاد الأوراقُ التي قدمت في هذا المؤتمر، الذي احتضنته العاصمة التونسية الأسبوع الماضي، تُجمع على الطبيعة المركبة للعدالة الانتقالية، وتباينِ السياقات التاريخية والسياسية والثقافية لمختلف تجاربها، فليس ثمّة نموذج كوني جاهز يمكن اعتماده، فلكل تجربةٍ إكراهاتها وتوتراتها التي ترتبط بميزان القوى، ومدى نضج النخب واستعداد المجتمع، بمختلف فئاته، للانخراط في هذا المسار الصعب والمكلف.
بيد أن تباين تجارب العدالة الانتقالية لا ينفي أن الفاعلين المعنيين عادة ما يواجهون المعضلة نفسها التي تتمثل في إدارة التوتر بين خطاب الضحايا الذي ينهل من معجم الانتهاكات التي حصلت في الماضي، مع ما يعنيه ذلك من تطلّع نحو إنتاج حقيقةٍ كاملةٍ ومحاكمة الجلادين وجبر الضرر وحفظ الذاكرة، وخطابِ المصالحة الذي يتوخّى إنتاجَ حقيقةٍ متوافق عليها وتجنبَ محاكمة الجلادين، وإعادةَ الاعتبار للضحايا من خلال جبر الضررين، المادي والمعنوي.
ليست إدارةُ هذا التوتر بالأمر الهين، كما تنبئنا بذلك التجارب الدولية، إذ تتطلب انخراط هؤلاء الفاعلين في عملية تفاوضٍ عسيرةٍ حول التاريخ والذاكرة والحقيقة والعدالة. وبالنظر إلى أن معظم هذه التجارب تترافق مع التحول نحو الديمقراطية، فإنها تكون محكومةً بميزان القوى في لحظة التحول هاته، فأي خطوةٍ سواء كانت منحازة لخطاب الضحايا أو لخطاب المصالحة الذي غالبا ما يتحصّن خلفه المسؤولون عن الانتهاكات، يجب أن تكون محسوبة. وبقدر ما يحتفظ النظام القديم بنفوذه ورجاله داخل مؤسسات الدولة، بقدر ما تكون الاستجابة لمطالب الضحايا محدودة، فالرهان الرئيسي بالنسبة للنظام الجديد تأمين المسار الانتقالي في أفق التحول نحو الديمقراطية بأقل الخسائر. وقد كانت مصيبةً رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، سهام بن سدرين، حين أكدت، في المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر، على الأفق الإصلاحي للتجربة التونسية، ما يعني أن الرهان الأساسي للعدالة الانتقالية يكون في العمل على ضمان عدم تكرار الانتهاكات التي حدثت في الماضي، وتأمين مستقبلٍ أفضل للأجيال القادمة من خلال نشر قيم التسامح والديمقراطية وقبول الآخر.
كانت حصيلة الدولة الوطنية العربية من الانتهاكات التي ارتكبتها بحق معارضيها، على اختلاف انتماءاتهم الإيديولوجية والسياسية، مؤلمةً ومدمرةً، ليس فقط بالنسبة للضحايا وعائلاتهم، بل، أيضا، بالنسبة لمجتمعاتها التي لا تزال تدفع تكاليف القمع الوحشي الذي مارسته عليها هذه الدولة. وجاءت المضاعفات المأساوية التي واكبت تعثّر معظم الثورات العربية لترفع هذه الحصيلة إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، بعد تفكك السلم الأهلي والاجتماعي في أكثر من بلد عربي.
غير أن ذلك لا يعني أن آفاق بناء العدالة الانتقالية في البلدان العربية المنكوبة مسدودة، فالمخاضات التي تعيشها مجتمعاتنا تفيد بأن التحول نحو الديمقراطية بات رهانا شعبيا، وإن تباينت أشكال التعبير عن ذلك. وبناءُ هذا التحول وترسيخه يقتضيان مواكبته بإرساء هذه العدالة، ولا سيما في ما يتعلق باستعادة ذاكرة الضحايا وإعادة بنائها، بما هي ذاكرة جماعية تصِل الماضي المؤلم بالمستقبل الذي يُفترض أن يتطلع إليه الجميع تحت مظلة مصالحةٍ وطنيةٍ شاملة.
والرهان، هنا، ينصب، بالأساس، على تجديد الثقافة السياسية العربية بتحريرها من روح الثأر والكراهية، فكلما اتسعت مساحة الاعتراف والإنصاف والصفح، أمكن بناء عدالة انتقالية متوازنة، تستجيب للحد الأدنى من متطلباتها.
ضمن هذا الأفق، خصص المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أشغالَ مؤتمره السنوي، الذي يعنى بقضايا التحول الديمقراطي، للعدالة الانتقالية وما ترتبط به من قضايا على صلة بالسياسة والتاريخ والذاكرة. وتكاد الأوراقُ التي قدمت في هذا المؤتمر، الذي احتضنته العاصمة التونسية الأسبوع الماضي، تُجمع على الطبيعة المركبة للعدالة الانتقالية، وتباينِ السياقات التاريخية والسياسية والثقافية لمختلف تجاربها، فليس ثمّة نموذج كوني جاهز يمكن اعتماده، فلكل تجربةٍ إكراهاتها وتوتراتها التي ترتبط بميزان القوى، ومدى نضج النخب واستعداد المجتمع، بمختلف فئاته، للانخراط في هذا المسار الصعب والمكلف.
بيد أن تباين تجارب العدالة الانتقالية لا ينفي أن الفاعلين المعنيين عادة ما يواجهون المعضلة نفسها التي تتمثل في إدارة التوتر بين خطاب الضحايا الذي ينهل من معجم الانتهاكات التي حصلت في الماضي، مع ما يعنيه ذلك من تطلّع نحو إنتاج حقيقةٍ كاملةٍ ومحاكمة الجلادين وجبر الضرر وحفظ الذاكرة، وخطابِ المصالحة الذي يتوخّى إنتاجَ حقيقةٍ متوافق عليها وتجنبَ محاكمة الجلادين، وإعادةَ الاعتبار للضحايا من خلال جبر الضررين، المادي والمعنوي.
ليست إدارةُ هذا التوتر بالأمر الهين، كما تنبئنا بذلك التجارب الدولية، إذ تتطلب انخراط هؤلاء الفاعلين في عملية تفاوضٍ عسيرةٍ حول التاريخ والذاكرة والحقيقة والعدالة. وبالنظر إلى أن معظم هذه التجارب تترافق مع التحول نحو الديمقراطية، فإنها تكون محكومةً بميزان القوى في لحظة التحول هاته، فأي خطوةٍ سواء كانت منحازة لخطاب الضحايا أو لخطاب المصالحة الذي غالبا ما يتحصّن خلفه المسؤولون عن الانتهاكات، يجب أن تكون محسوبة. وبقدر ما يحتفظ النظام القديم بنفوذه ورجاله داخل مؤسسات الدولة، بقدر ما تكون الاستجابة لمطالب الضحايا محدودة، فالرهان الرئيسي بالنسبة للنظام الجديد تأمين المسار الانتقالي في أفق التحول نحو الديمقراطية بأقل الخسائر. وقد كانت مصيبةً رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، سهام بن سدرين، حين أكدت، في المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر، على الأفق الإصلاحي للتجربة التونسية، ما يعني أن الرهان الأساسي للعدالة الانتقالية يكون في العمل على ضمان عدم تكرار الانتهاكات التي حدثت في الماضي، وتأمين مستقبلٍ أفضل للأجيال القادمة من خلال نشر قيم التسامح والديمقراطية وقبول الآخر.
كانت حصيلة الدولة الوطنية العربية من الانتهاكات التي ارتكبتها بحق معارضيها، على اختلاف انتماءاتهم الإيديولوجية والسياسية، مؤلمةً ومدمرةً، ليس فقط بالنسبة للضحايا وعائلاتهم، بل، أيضا، بالنسبة لمجتمعاتها التي لا تزال تدفع تكاليف القمع الوحشي الذي مارسته عليها هذه الدولة. وجاءت المضاعفات المأساوية التي واكبت تعثّر معظم الثورات العربية لترفع هذه الحصيلة إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، بعد تفكك السلم الأهلي والاجتماعي في أكثر من بلد عربي.
غير أن ذلك لا يعني أن آفاق بناء العدالة الانتقالية في البلدان العربية المنكوبة مسدودة، فالمخاضات التي تعيشها مجتمعاتنا تفيد بأن التحول نحو الديمقراطية بات رهانا شعبيا، وإن تباينت أشكال التعبير عن ذلك. وبناءُ هذا التحول وترسيخه يقتضيان مواكبته بإرساء هذه العدالة، ولا سيما في ما يتعلق باستعادة ذاكرة الضحايا وإعادة بنائها، بما هي ذاكرة جماعية تصِل الماضي المؤلم بالمستقبل الذي يُفترض أن يتطلع إليه الجميع تحت مظلة مصالحةٍ وطنيةٍ شاملة.
والرهان، هنا، ينصب، بالأساس، على تجديد الثقافة السياسية العربية بتحريرها من روح الثأر والكراهية، فكلما اتسعت مساحة الاعتراف والإنصاف والصفح، أمكن بناء عدالة انتقالية متوازنة، تستجيب للحد الأدنى من متطلباتها.