العرب... الصورة والأصل

22 نوفمبر 2015
+ الخط -
انشغلنا، نحن العرب، بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2011 في الولايات المتحدة، بالصورة التي نقدمها عن أنفسنا للغرب باعتبارنا "ممثلين" للإسلام. وقد طُرحت أفكار كثيرة، أخذ بعضها طريقه إلى التنفيذ، مثل إطلاق قنوات تلفزيونية فضائية ناطقة بالإنكليزية، أو إصدار كتب وصحف وصناعة أفلام وبرامج تلفزيونية ومواقع إلكترونية... إلخ، تعمل على تغيير الصورة النمطية التي يرسمها الغرب للعربي خصوصاً، وللمسلم عموماً. كانت كل هذه المشاريع، وما زالت، تسعى إلى تغيير صورة العرب والمسلمين في ذهنية المتلقي الغربي، سعت هذه المشاريع إلى إثبات أن العرب والمسلمين ليسوا إرهابيين، ولا ينتجون ثقافة العنف، وهم شعوب مسالمة، وأن هؤلاء الإرهابيين لا يمتون إلى الإسلام والعروبة بصلة، وهم مجرد أقلية من المجرمين، ولن يُسمح لهذه الأقلية أن تسرق الإسلام، وتفرض صورتها العنيفة والدموية عليه، بوصفها صورة المسلم في العالم.
بدت هذه الأفكار جميلة ومشروعة وهادفة، خصوصاً أن هناك فعلا صورة مشوهة للإسلام، عند قطاعات من المجتمعات الغربية، وطالما هذه الصورة مشوهة، فمن الطبيعي العمل على تعديل هذا التشويه، الذي يظهر، في حالات كثيرة، تشويهاً مقصوداً. هذه الأفكار، وبعد تطبيق عدد منها، تطرح تساؤلات من نوع، هل تصلح فضائية عربية ناطقة بالإنكليزية لتغيير هذه الصورة، وهل ستجد مشاهدين غربيين فعلاً، وهل تجد المطبوعات العربية باللغات الأجنبية قراءً بين أصحاب هذه اللغات... الخ، وإذا وجدت ما هي الصورة التي سترسمها وسائل الإعلام عن العربي أمام المتلقي الغربي؟
كل هذه أسئلة مشروعة. ولكن، أعتقد أنها هامشية، لأن سؤال الصورة هامشي، نعمل في الهامشي، وننسى الرئيسي. السؤال الرئيسي في هذه الحالة ليست الصورة، ولكن الأصل. فالمشكلة الأهم التي تحتاج إلى إجابة حقيقية هي واقعنا قبل صورتنا، وبالتالي، صورتنا عن أنفسنا، قبل صورتنا عند الآخرين. وهل هذه الصورة نموذجية، وهل هي قابلة للتصدير على أساس أنها النموذج الجذّاب للعربي والمسلم؟ وإذا كانت الصورة التي رسمها الغرب، عبر الأكاديميات أو وسائل الإعلام الغربيين، مشوهة ومضللة، هل صورة العربي والمسلم عن نفسه مثالية وصالحة للتعميم كمثال مختلف وجذاب، بعيداً عن الأقلية التي تصادر صورته اليوم؟
لا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يجيب على أي من هذه الأسئلة بالإيجاب، فصورتنا عن أنفسنا فيها عيوب عميقة وهيكلية كثيرة تجعلها صورة غير صالحة للتعميم والترويج والتقديم للآخرين. ليس ذلك بفعل الآخرين في واقعنا العربي، على أهمية ما يفعله الآخرون بنا. بل بفعل المعطيات التي أحدثناها بأيدينا، وفرزها واقعنا العربي، وما راكمناه من مشكلات، تحولت إلى أمراض اجتماعية وسياسية واقتصادية وتعليمية وتربوية غير قابلة للحل.
إذا نظرنا إلى الواقع العربي على كل المستويات، من الرياضة إلى الاقتصاد إلى النظم السياسية
إلى مستويات التعليم... إلخ، لا نجد صورة واحدة يمكن أن نرضى عنها نحن. سواء كان ذلك على مستوى العلاقات العربية ـ العربية، والتعاون العربي المشترك، والوزن السياسي والاقتصادي للعرب. أو كان ذلك على مستوى كل نظام عربي على انفراد، ومعطياته التمثيلية والمؤسسية والحقوقية، وهل نتحدث عن مستوى الحريات الرفيعة التي يعيشها المواطن العربي اليوم؟ أم نسوق الديمقراطية والمشروعية السياسية لأنظمة الحكم العربية، والوضع أكثر سوءاً على المستويات الأخرى. أين نستطيع أن نرى الإنجازات الاقتصادية الكبيرة التي حصلتها هذه الدول، وجعلت شعوبها أكثر رخاءً، ولها وزنها الاقتصادي في العالم. وتقول الأرقام إن مساهمة العرب في الاقتصاد العالمي أقل بكثير من نسبتهم إلى عدد سكان الأرض، على الرغم من مداخيل النفط. وأية بنية اجتماعية مشوهة نعيشها اليوم، ومستوى "التطور" الاجتماعي النموذجي الذي وصلنا إليه، قام على عمليات سحق اجتماعية مرعبة، أصابت كل بنية المجتمعات العربية، وقلبتها رأساً على عقب، وحولتها إلى شعوب من المحتاجين، وأضيف عليها، في زمن الاحتجاجات، على الاستبداد ومطالب الحرية، المذابح وتوغل الاستبداد في دم شعبه وقمعه في كل الوسائل التي تفوق الخيال. وهل نحتاج إلى الحديث عن مستويات التعليم والأمية، وعن الفساد وعن السجون وعن سوء الإدارة... وعن... وعن! وكل ذلك نُسَوِّقُهُ على أساس أنه منجزات لهذا النظام أو ذاك، وكل الخراب الذي لحق بالمنطقة مجتمعة، ودولاً منفردة، نُسَوِّقُهُ على أنه إنجازات عظيمة لأنظمة عظيمة لقيادات أعظم، وهذا ذروة المأساة. وكل هذا الخراب، ونريد أن نفبرك صورة جميلة وطليعية ورومانسية عنا. هل نستطيع، فعلاً، تسويق الصورة الحقيقية للعالم العربي بوصفها نموذجاً، يمكن أن يكون صالحاً لنبني عليه دعاية جذابة، تبدد الصورة السائدة عنا اليوم؟ وهل نحن مقتنعون بهذه الصورة النموذجية، قبل أن نقنع الآخرين بها؟
صورتنا عن أنفسنا اليوم من القتامة، بحيث تجعلنا نكفر بأوطاننا، ونخجل من أن ننظر إلى أنفسنا في المرآة، وهذه الأوطان التي تعاني من كم هائل من المشكلات التي باتت تبدو عصية على الحل، هي أوطان غير مقنعة لأصحابها، على فرض أن الشعوب صاحبة هذه الأوطان، فكيف نقنع الآخرين، بما نحن غير مقتنعين به؟
ليست المشكلة في صورة تحتاج إلى رتوش، إنما في الأصل، المشكلة في الواقع العربي الذي نعيشه، والذي لا يمكن الدفاع عنه، ولا يمكن تسويقه. لم تعد آليات الكذب وقلب الحقائق تجدي نفعاً في عالمٍ بات أكثر معرفة بالحقائق الداخلية للدول، على الرغم من كل التعتيم الذي تحاول هذه الدول فرضه. وقبل أن نقنع الآخرين بصورتنا، علينا أن نقتنع نحن بواقعنا، ونرضى عن هذا الواقع الذي لا يُرضي اليوم لا عدواً ولا صديقاً. وبدل أن نتساءل عن الصورة، علينا أن نتساءل عن الأصل، لماذا يخرج كل العنف من بيننا؟ طبعاً، يحتاج السؤال إلى النقاش. ولكن، يمكن القول إن واقعاً يتردى بشكل مستمر كواقعنا، سوف يُخرج أسوأ ما فيه. وفي هذا الإطار، ليس هناك أسوأ من ظاهرة الإرهاب. لذلك، يجب أن تستهدف أي معالجة حقيقية الأصل لا الصورة، التي هي مجرد انعكاس لهذا الأصل.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.