العودة إلى المربع الأجمل
درج الفلسطينيون على تمثيل المقاوم بذاك الذي يحمل البندقية، أو الآر بي جي، ملثماً بكوفية. اليوم، يحاول شهداء القدس رسم بورتريه جديد للمقاوم، ليشبه أي فلسطينيٍّ، يسير في الشارع ويقود سيارته، وكل ما يحتاج إليه من عدّة وعتاد لا يتعدى إيماناً بأن الظلم والقهر طارئان، ومجابهتهما ضرورة.
لم يترك شهداء القدس متسعاً للتحليلات التقليدية البائسة عن دوافع من يواجهون الموت، طلباً لحياة غير تلك المفروضة عليهم، شاب متخفف من أعباء الدنيا، وأسير سابق بخبرة نضالية طويلة، ورب عائلة هادئ يرعاها جيداً. أوجه ثلاثة متنوعة، يمكن أن يكونها أي فلسطيني.
المتتبع لمسار انتفاضة الأقصى يجد أنها نحت، باستمرار، نحو تضييق هامش العمل المقاوم في فئة محددة من الفلسطينيين، أولئك القادرين على حمل السلاح، والحصول عليه واستخدامه، ولديهم ما يكفي من الخبرة والعتاد والغطاء التنظيمي الذي يكفل لهم عيش حياة المطاردين للاحتلال. في الخلاصة ظل عدد المنخرطين في المواجهة يتناقص، تبعاً، لظروف موضوعية، أهمها حصر المقاومة في فئات محددة، وتمترس الاحتلال وجنوده ومستوطنيه، في مواقع بعيدة نسبياً عن المواجهة الشعبية العامة.
وبصرف النظر عن تقييم ذاك المسار، والرأي فيه، إلا أن قناعة تسللت إلى فلسطينيين كثيرين، جعلتهم ينظرون إلى العمل المقاوم على أنه حالة ليست في متناولهم، وبدأوا بالتعويل على من يقع العمل المقاوم في متناولهم، فتحوّل كثيرون من فاعلين محتملين إلى محرّضين أو مراقبين.
ما يحدث، منذ فترة في القدس وحولها، يكسر مربع الانتظار والمراقبة، ويعيد العمل المقاوم إلى مربعه الأجمل، حيث لا يمكن لأي فلسطيني أن يكون مقاوماً، ويتخلص من التصورات التي تحشر العمل المقاوم في أشكال محددة، وباستعدادات طويلة. مربع المقاومة، كفعل شعبي عام، لا ينتظر من الفصائل مالاً لتمويل العمليات، ولا أوامر قبل تنفيذها. مربع يعيد تعريف حدود الممكن والوارد والمتحقق، ومع كل هذا مربع يعيد المواجهة أسلوب حياة.
حتى بالمعنى السياسي، لا يوجد مثل المواجهة الشعبية العامة لقطع الطريق على أي تنازلات آتية، أو تواطؤات متوقعة، ولا يوجد فعل مقاوم يحمل كل إشارات الرفض والتصحيح على الحقوق والثوابت، مثل الفعل الشعبي العام، ولا توجد رسائل مبطنة، أو خفية، مع نضال كهذا. والرسالة الوحيدة تقول إن حياة على هذه الشاكلة غير ممكنة، إن أي أمل بوجود احتلالي هادئ وهم، وإن كل رسائل التطمينات من القيادة السياسية الفلسطينية هباء، وإن "الاستراتيجية الوطنية لإنهاء الاحتلال" يعرفها الفلسطيني بالبداهة وينفذها، وليست بحاجة لمؤسسات تمولها السلطة، وتنفق عليها في الفنادق والعواصم الغربية، وتلويها وتقلبها، حتى لا تشمل أي أذى فعليّ يطال المحتلين.
يعيد النضال الشعبي وضع سؤال الإمكانية في حدوده الطبيعية، من دون التضخم الذي لحق به سنوات، إن الشهداء الشبان داخل سيارات والمترجلين منها يقولون إن هذا ما يمكن أن يفعله الجميع، ولا يمكن لأي كان استثماره واستغلاله، ولا يمكن التشكيك بوضوحه وحقيقة مقاصده.
والأهم من كل هذا أن الهوس السائد في مناطق السلطة بمنطق العمل المؤسساتي، القائم على مفردات التخطيط والاستراتيجيات والأدوات والإمكانيات، يثبت يوماً بعد يوم إفساده قيمة الفعل وطبيعته في أي سياق، ولا سيما السياق الوطني. فشهداء القدس يثبتون أن الاستراتيجية لا تسبق الفعل، بل هو يحددها ويستكشفها، وأن من يضع الخطط هو الفاعل في الميدان، في ضوء فعله، وإن أصبحت الخطط عبئاً، فلا حاجة بنا إليها.
"إن السلاح هو صاحبه"، وليس، فقط، بندقية أو صاروخاً ينتظرها المظلومون أشهراً أو سنوات، هذا إن نجت من حصار المتواطئين والمنسّقين ومقايضي الولاءات والمواقف. وإن المقاوم هو كل شخص، وكلما تلاشت الفوارق بينه وبين أي شخص آخر، بات فعله أنجع وأثمن.