في تونس عشرات الجمعيّات المختصّة في محاربة الفساد، هيئة وطنيّة لمكافحة الفساد بدعم حكوميّ، تعدديّة إعلاميّة غير مسبوقة، وأخيرا ثورة كان قادحها الحقيقيّ استشراء الظلم والفساد في المؤسّسات الحكوميّة والخاصّة، بتواطؤ ومشاركة رسميّة. لكن ظاهرة الفساد أثبتت أنّها تحوّلت من ممارسة شاذّة إلى ممارسة منظّمة في صلب دواليب دولة، سقط رأس نظامها الفاسد دون أن تتأثّر جذوره برياح التغيير.
في هذا السياق، كشفت الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد أخيراً عن تلقّيها أكثر من 11500 ملف يتعلّق بتجاوزات وقضايا فساد في مختلف القطاعات خلال السنوات، التي تلت يناير/كانون الثاني 2011. هذا الإعلان لم يمثّل مفاجأة للتونسيّين، حيث يعي الشارع تماماً حجم الفساد المستشري في مؤسّسات الدولة وعجز مختلف الحكومات عن معالجة هذه الظاهرة.
علاوة على عشرات الجمعيات الناشطة في مجال مكافحة الفساد، سارعت الحكومة المؤقّتة بعد الثورة إلى استحداث وزارة الحوكمة ومكافحة الفساد، إضافة إلى الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، لإعطاء انطباع بتبنّي الجهات الرسميّة الحرب على الآفة التي نخرت معظم مؤسّسات الدولة.
على الأرض، لم تستطع هذه الهياكل إحداث تغيير يُذكر، عدا الإحصائيّات والتصريحات. ويعلّق رئيس الهيئة سمير العنّابي، قائلاً إنّه تمّت إحالة أكثر من 400 ملفّ فساد إلى القضاء غير أنّه لم يتم النظر حتّى هذه الساعة سوى بـ 10% منها.
أمّا عن سبب التباطؤ في حسم هذه التجاوزات، فيشير العنابي إلى أنّ طبيعة المنظومة القضائيّة وتشعّب هذه الملفّات أدّى إلى هذا النسق الضعيف في معالجة قضايا الفساد. وهو ما يمثّل فشلاً ذريعاً على المستوى الرسميّ للجهود المبذولة لمحاربة الفساد ومحاصرته.
فساد مستشري
في السياق ذاته، يؤكد عضو الجمعية التونسية لمكافحة الفساد، نزار الجبري، أنّ الفساد بجميع تجلياته السياسية والقانونية والمالية والإدارية والاقتصادية مثّل الدعامة الأساسية، التي اعتمد عليها نظام الحكم في تونس خلال أكثر من نصف قرن، حيث عمل النظام على ترسيخ هذه الممارسات لتتحوّل إلى آليّة لرهن الثروة الوطنية والمؤسسات الدستورية والهياكل الاستشارية وجميع المؤسسات العمومية لخدمة مصالحه، مضيفاً أنّ الثورة لم تستطع أن تفكّك منظومة الفساد هذه بتواطؤ رسميّ من كلّ الحكومات المتعاقبة. أمّا عن أسباب استشراء هذه الظاهرة وحالة العجز التي تواجهها السلطات الرسميّة ومكوّنات المجتمع المدنيّ، فيجيب هذا الأخير أنّ العديد من العوائق تعرقل جهود مكافحة الفساد، حيث تتمّ التغطية على التجاوزات المرتكبة داخل المؤسّسات العموميّة من قبل الموظّفين أنفسهم، حتّى أولئك الذّين لم يتورّطوا في هذه الممارسات، وفق منطق الزمالة. هذه العقليّة أدّت بحسب الاستبيان الأخير، الذّي أجرته الجمعيّة، إلى استحواذ الإدارات العموميّة بالنصيب الأكبر من الفساد بنسبة ناهزت 83%. أمّا العائق الثاني، فهو غياب الإرادة السياسيّة لتفكيك منظومة الفساد وفتح ملفات جميع التجاوزات ومحاسبة الفاسدين، حيث اقتصرت "نجاحات" السلطات الرقابية الرسميّة على محاسبة ومعاقبة الفاسدين الصغار، وترك الرؤوس الكبيرة. أمّا العائق الأخير، فهو التضييق على حقّ النفاذ إلى المعلومة، والذّي يظلّ أحد الأسباب التي تعرقل جهود المجتمع المدني لمحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين.
ورغم المساعي الجديّة للعديد من مكوّنات المجتمع المدني لمحاربة الفساد، وفضح التجاوزات في بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، إلاّ أنّ هذه الجهود لم تستطع أن تؤثّر بشكل ملموس على استشراء هذه الظاهرة. محدوديّة تأثير عمل هذه الجمعيات تعود بالأساس، وفق الناشط المدني أسامة العماري، إلى تغلغل هذه المنظومة في معظم قطاعات الدولة وسيطرتها على الساحة الإعلاميّة وتحالفها مع الطبقة السياسيّة.
التجاهل سيد الموقف
في المقابل، فإنّ السلطة تتعامل مع تحرّكات الجمعيات وتصريحاتها بأسلوب التجاهل، حيث تبقى الملفّات المقدّمة إلى الهيئات الرسمية حبيسة الأدراج، ليقتصر ردّ الفعل الحكوميّ على الاعتراف باستشراء هذه الظاهرة والتباكي من تأثيرها على حسن سير الخطط الحكوميّة، دون أن تكون هناك إرادة حقيقيّة لمجابهة الفساد الذي أصبح التونسيّون يتعاملون معه كأمر واقع لا مناص منه. هذا التسليم أفضى، على ما أبرزه الاستبيان الأخير لمؤسّسة سيغما كونساي للإحصائيّات والتي أشارت إلى أنّ 77% من التونسيّين صاروا يتعاملون مع الأمر كضرورة لقضاء مصالحهم، ليتحوّل الفساد من شذوذ وجريمة إلى عرف وآليّة عمل وتسيير.
اقرأ أيضاً:العقاب المؤجل:الفساد في تونس يجد مظلّات جديدة بعد الثورة
في هذا السياق، كشفت الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد أخيراً عن تلقّيها أكثر من 11500 ملف يتعلّق بتجاوزات وقضايا فساد في مختلف القطاعات خلال السنوات، التي تلت يناير/كانون الثاني 2011. هذا الإعلان لم يمثّل مفاجأة للتونسيّين، حيث يعي الشارع تماماً حجم الفساد المستشري في مؤسّسات الدولة وعجز مختلف الحكومات عن معالجة هذه الظاهرة.
علاوة على عشرات الجمعيات الناشطة في مجال مكافحة الفساد، سارعت الحكومة المؤقّتة بعد الثورة إلى استحداث وزارة الحوكمة ومكافحة الفساد، إضافة إلى الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، لإعطاء انطباع بتبنّي الجهات الرسميّة الحرب على الآفة التي نخرت معظم مؤسّسات الدولة.
على الأرض، لم تستطع هذه الهياكل إحداث تغيير يُذكر، عدا الإحصائيّات والتصريحات. ويعلّق رئيس الهيئة سمير العنّابي، قائلاً إنّه تمّت إحالة أكثر من 400 ملفّ فساد إلى القضاء غير أنّه لم يتم النظر حتّى هذه الساعة سوى بـ 10% منها.
أمّا عن سبب التباطؤ في حسم هذه التجاوزات، فيشير العنابي إلى أنّ طبيعة المنظومة القضائيّة وتشعّب هذه الملفّات أدّى إلى هذا النسق الضعيف في معالجة قضايا الفساد. وهو ما يمثّل فشلاً ذريعاً على المستوى الرسميّ للجهود المبذولة لمحاربة الفساد ومحاصرته.
فساد مستشري
في السياق ذاته، يؤكد عضو الجمعية التونسية لمكافحة الفساد، نزار الجبري، أنّ الفساد بجميع تجلياته السياسية والقانونية والمالية والإدارية والاقتصادية مثّل الدعامة الأساسية، التي اعتمد عليها نظام الحكم في تونس خلال أكثر من نصف قرن، حيث عمل النظام على ترسيخ هذه الممارسات لتتحوّل إلى آليّة لرهن الثروة الوطنية والمؤسسات الدستورية والهياكل الاستشارية وجميع المؤسسات العمومية لخدمة مصالحه، مضيفاً أنّ الثورة لم تستطع أن تفكّك منظومة الفساد هذه بتواطؤ رسميّ من كلّ الحكومات المتعاقبة. أمّا عن أسباب استشراء هذه الظاهرة وحالة العجز التي تواجهها السلطات الرسميّة ومكوّنات المجتمع المدنيّ، فيجيب هذا الأخير أنّ العديد من العوائق تعرقل جهود مكافحة الفساد، حيث تتمّ التغطية على التجاوزات المرتكبة داخل المؤسّسات العموميّة من قبل الموظّفين أنفسهم، حتّى أولئك الذّين لم يتورّطوا في هذه الممارسات، وفق منطق الزمالة. هذه العقليّة أدّت بحسب الاستبيان الأخير، الذّي أجرته الجمعيّة، إلى استحواذ الإدارات العموميّة بالنصيب الأكبر من الفساد بنسبة ناهزت 83%. أمّا العائق الثاني، فهو غياب الإرادة السياسيّة لتفكيك منظومة الفساد وفتح ملفات جميع التجاوزات ومحاسبة الفاسدين، حيث اقتصرت "نجاحات" السلطات الرقابية الرسميّة على محاسبة ومعاقبة الفاسدين الصغار، وترك الرؤوس الكبيرة. أمّا العائق الأخير، فهو التضييق على حقّ النفاذ إلى المعلومة، والذّي يظلّ أحد الأسباب التي تعرقل جهود المجتمع المدني لمحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين.
ورغم المساعي الجديّة للعديد من مكوّنات المجتمع المدني لمحاربة الفساد، وفضح التجاوزات في بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، إلاّ أنّ هذه الجهود لم تستطع أن تؤثّر بشكل ملموس على استشراء هذه الظاهرة. محدوديّة تأثير عمل هذه الجمعيات تعود بالأساس، وفق الناشط المدني أسامة العماري، إلى تغلغل هذه المنظومة في معظم قطاعات الدولة وسيطرتها على الساحة الإعلاميّة وتحالفها مع الطبقة السياسيّة.
التجاهل سيد الموقف
في المقابل، فإنّ السلطة تتعامل مع تحرّكات الجمعيات وتصريحاتها بأسلوب التجاهل، حيث تبقى الملفّات المقدّمة إلى الهيئات الرسمية حبيسة الأدراج، ليقتصر ردّ الفعل الحكوميّ على الاعتراف باستشراء هذه الظاهرة والتباكي من تأثيرها على حسن سير الخطط الحكوميّة، دون أن تكون هناك إرادة حقيقيّة لمجابهة الفساد الذي أصبح التونسيّون يتعاملون معه كأمر واقع لا مناص منه. هذا التسليم أفضى، على ما أبرزه الاستبيان الأخير لمؤسّسة سيغما كونساي للإحصائيّات والتي أشارت إلى أنّ 77% من التونسيّين صاروا يتعاملون مع الأمر كضرورة لقضاء مصالحهم، ليتحوّل الفساد من شذوذ وجريمة إلى عرف وآليّة عمل وتسيير.
اقرأ أيضاً:العقاب المؤجل:الفساد في تونس يجد مظلّات جديدة بعد الثورة