القطيعة الشعبية

24 يونيو 2018
شرط الانضمام للمنظمة عدم اشتراك الفلسطينيين بأي حزب آخر(Getty)
+ الخط -
أطلق مؤتمر القمة العربية الأول عام 1963 شرارة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، عندما كلف أحمد الشقيري بمهمة استقصاء الآراء الفلسطينية من أجل بناء جسم سياسي فلسطيني. تمخضت هذه المهمة عن ولادة منظمة معزولة بشكل شبه كامل عن مختلف الفئات والشرائح والطبقات الفلسطينية، سواء داخل فلسطين أم خارجها، لأن الشقيري استعان بمجموعة من الشخصيات العشائرية والقبلية، وببعض الأعيان من الأعضاء السابقين في مجالس النواب والأعيان والوزارات الأردنية ومجالس البلدات والقرى، بينما تم تهميش آراء وأدوار الغالبية الفلسطينية، وجميع الأحزاب والقوى السياسية بشكل مقصود. حتى بلغ الأمر في المجتمعين في المؤتمر الفلسطيني الأول وضع شرط على الفلسطينيين الراغبين في الانضمام إلى المنظمة، بألا يكونوا أعضاء في أي حزب أو تجمع سياسي.
وبذلك تكون المنظمة قد استثنت جزءاً كبيراً من أبناء الشعب الفلسطيني في المرحلة الممتدة من بداياتها وحتى استقالة الشقيري، والتي تبعتها جملة من التغييرات داخل المنظمة أسفرت في النهاية عن سيطرة فصائل العمل الوطني على معظم تركيبة المجلس الوطني واللجنة التنفيذية، ما أدى إلى تولي فتح رئاستها، وانتخاب ياسر عرفات في الدورة الخامسة للمجلس الوطني الفلسطيني، في شباط من عام 1969، رئيساً للجنة التنفيذية، وقائداً عاماً لقوات الثورة الفلسطينية. الأمر الذي اعتبره بعضهم نهاية مرحلة سيطرة النظام العربي على المنظمة، وبداية مرحلة سيطرة الشعب الفلسطيني عليها، على اعتبار السيطرة الفصائلية موازية للسيطرة الشعبية، مما طمس الفرق بين السيطرة الشعبية والسيطرة الفصائلية.
تجاهل بعضهم خطورة غياب أي دور شعبي في اختيار أعضاء المجلس الوطني، واللجنة التنفيذية، ورئيس المنظمة، عبر الاقتراع المباشر، وفي أي من أماكن التجمع الفلسطيني، لمصلحة نظام المحاصصة الفصائلية فقط الذي أدى أولاً إلى عدم إيجاد أو تطوير آلية ديمقراطية حقيقية وعملية، تعكس إرادة الفلسطينيين جميعاً، سواء أكانوا متحزبين أم لا، كما أدى ثانياً إلى تحول المنظمة إلى مجرد لعبة تتحكم بها الفصائل المشكلة لها، وخصوصاً الفصيل المسيطر عليها "فتح".
وعليه يمكننا القول إن كلا من مرحلتي رئاسة الشقيري وعرفات للمنظمة وما تبعهما حتى اللحظة، قام على استبعاد الإرادة والدور والتأثير الشعبي، لمصلحة دعم سيطرة وتأثير الدول الداعمة لقيادة المنظمة، من دون الدخول في التفاصيل الآن. وهو ما يشكل إحدى أهم سلبيات منظمة التحرير، وأحد أهم عوائق العمل الوطني الفلسطيني. وخصوصا في هذه المرحلة التي تشهد قطيعة شعبية واسعة وعريضة مع مجمل الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية، بداية من فتح وحماس، وليس انتهاء بالقوى المحسوبة على اليسار، كرد فعل شعبي على ما حملته السياسات الفصائلية الضيقة من آثار سلبية ومدمرة على مجمل الشعب والقضية الفلسطينية، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال طبيعة وأشكال النضال الفلسطيني الشعبي اليوم، سواء في الحراك الشعبي في كل من الضفة وغزة وأراضي الـ 48، أو في غالبية التسجيلات والرسائل التي تركها بعض الشبان الفلسطينيين قبل تنفيذهم لعمليات الطعن والدهس، والتي رفضوا فيها أي ربط بينهم وبين أي من الفصائل والقوى المنظمة، حتى في الحالات التي كان لهم فيها نشاط سابق مع إحداها.
وذلك دون أن ننكر الشعبية النسبية لكل من "فتح" و"حماس"، التي تعكس قدرات القوتين المالية والسياسية، بدلا من شعبيتهما الحقيقية، كونهما يحصلان على دعم مالي خارجي كبير وضخم، ونتيجة لنفوذهما السياسي والإداري المبني على سيطرتهما على كل من الضفة وغزة على الترتيب، وقدرتهما على استثارة مشاعر الفلسطينيين من حين إلى آخر. كما يدفع الوضع الإقليمي والدولي الراهن نحو مزيد من الاضمحلال والتأطير في عمل وبنية المنظمة، من أجل تصفيتها والقضاء عليها، لصالح تضخم حجم ونفوذ وصلاحيات السلطة الوطنية، المسيطر عليها كلياً وبشكل علني من قبل الاحتلال وداعميه. وهو ما يستخدمه البعض كذريعة من أجل التمسك بالمنظمة والحفاظ عليها بالشكل الراهن، أو مع قليل من الإصلاحات التي يجود علينا بها قادتها والقوى المسيطرة عليها. على اعتبار المنظمة منجزا فلسطينيا، مستقلا ولو نسبياً عن سيطرة الاحتلال. ليتناسى أصحاب هذا الرأي أن الجهات والأطراف والأشخاص أصحاب الكلمة العليا في المنظمة هم ذاتهم أصحاب الكلمة العليا في السلطة، وهم من أكثر الشخصيات لهاثاً خلف الاحتلال، وأكثرهم خضوعاً له.
يثير مجمل هذا الوضع نقاشا جادا حول المنظمة، بين من يعتبرها إحدى أهم مكتسبات حركة التحرر الفلسطينية، مما يتطلب النضال والعمل على إصلاحها فقط، من أجل تمكين مختلف شرائح الشعب الفلسطيني من اختيار قياداتها ومسارها وبرامجها. وبين من يجزم باستحالة إصلاحها، مما يتطلب تجاوزها والعمل على بناء جسد سياسي فلسطيني جديد من نقطة الصفر، لأن المنظمة قد تشكلت بقرار من الأنظمة العربية، وبهدف التحكم بمسار النضال الفلسطيني والعربي عموماً، ومن أجل ضبط المواجهة مع الاحتلال والحؤول دون تطورها إلى مواجهة جذرية وشاملة.
لا يبدو هناك فرق جوهري بين كلا الطرحين إن كانت دعوات الإصلاح صادقة وجادة، وإن تمكنت من تحرير المنظمة من هيمنة وسيطرة المال السياسي، الفلسطيني والخارجي. بل إن دعوات الإصلاح المبنية على إحداث تغيير جذري وشامل في كل من آليات عمل المنظمة و اختيار قادتها وممثليها، واتخاذ قراراتها وبرامجها وهياكلها، يرقى إلى درجة اعتباره عملية هدم وبناء شامل وجديد، وكأننا نحافظ على الاسم فقط، إكراما لمجمل تاريخ النضال الفلسطيني. في حين أعتقد أن من حق الفلسطينيين الحفاظ على اسم المنظمة أو البحث عن تسمية جديدة، بعد نجاحهم في بناء جسد سياسي يمثلهم حقاٌ ويستمد شرعيته وقراراته منهم فقط.
لقد تراجعت المنظمة اليوم عن القيام بغالبية أدوارها السياسية والاجتماعية، داخل وخارج فلسطين، حتى باتت مؤسساتها هامشية وضعيفة التأثير على جميع التجمعات الفلسطينية، وهو ما يؤدي إلى تراجع الاهتمام الشعبي بها وبمصيرها. في حين لا يختلف الفلسطينيون على أهمية بناء جسد سياسي يعبر ويدافع عنهم، وينظم ويقود شتى أنواع النضال المتبع داخل وخارج فلسطين، سواء أكانت منظمة التحرير الفلسطينية أو أي جهة خرى، تقوم بكل ما ذكر، وتسير بنا نحو استعادة جميع حقوقنا المستلبة.


المساهمون