وفي مقابلة خاصة مع "العربي الجديد" يقر منصور، أنه من حيث الوثائق التاريخية والمعلومات لا جديد عملياً، لكنه يستدرك قائلاً إن كتابه يبحث مثلاً بشكل خاص في خلفيات وعد بلفور والأشخاص والمؤسسات التي عملت على استصدار الوعد، خصوصاً أن الوكالة اليهودية، التي كثفت في سنوات الحرب العالمية الأولى وما قبلها، نشاطها لاستصدار وعد لها في فلسطين، لم تتردد في إجراء مفاوضات بهذا الشأن مع ألمانيا ولا مع فرنسا، عندما نصحت بريطانيا بداية حاييم وايزمان بالتفاوض (بفعل اتفاقيات سايكس بيكو التي كانت لا تزال سرية) بالتفاوض مع الحكومة الفرنسية، وتحديداً مع جورج كليمانصو، لتحصيل وعد بأن يكون شمال فلسطين، في الجليل، الأرض المحددة لوعد بوطن قومي لليهود.
لكن وعلى الرغم من أن منصور يقر بأنه لا أسرار جديدة في سياق استصدار وعد بلفور، إلا أنه يشير إلى خلاف داخلي في صفوف الحكومة البريطانية نفسها، مثل معارضة وزير المستعمرات البريطاني، إدوين مونتيغو، لاستصدار الوعد وتبعات ذلك على مكانة ووضع اليهود في أوروبا وباقي بقاع الأرض بعد أن يمنحوا دولة، أو معارضة وزير الخارجية البريطاني، آرثر جيمس بلفور، نفسه لأجزاء كبيرة من صيغة الوعد الأصلية، التي قدمها اللورد ليونارد روتشيلد، وجاء فيه "فلسطين تكون وطناً قومياً لليهود". ولكن نتيجة للضغط الداخلي، وبفعل معارضة بلفور نفسه، تم تغيير نص الوعد إلى النص الرسمي المعلن ليصبح "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، بمعنى لم يقبل الإنكليز أن يعطوا كل فلسطين لليهود، بل جزء فقط من دون تحديده، وهو تجسيد للدبلوماسية البريطانية تحسباً من رد الشريف حسين في الحجاز.
ويبيّن منصور في كتابه الجديد الدور الخاص الذي لعبه كل من روتشيلد ووايزمان في استصدار الوعد، مشيراً إلى أن بريطانيا في فترة ما قبل الحرب، وخلال مباحثات سايكس- بيكو، كانت تبحث عن طريق للتخلص من الوجود الفرنسي في قناة السويس، وكانت عائلة روتشيلد قدمت ما يوازي 40 في المائة مما دفعته بريطانيا لشراء كامل أسهم شركة قناة السويس، ولا سيما الأسهم الفرنسية بالشركة، لأنها لم ترد أن يبقى من يزاحمها في القناة، من جهة. ومن جهة ثانية، وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت تسعى لأن يضغط اليهود في بريطانيا، على يهود الولايات المتحدة لحث الرئيس الأميركي، طوماس ويلسون، على دخول الحرب إلى جانب الحلفاء ضد دول المركز. وقد كان وايزمان، كما يقول المؤرخ جوني منصور لـ"العربي الجديد"، صاحب شخصية فذة، وكما نقول بالعربية ملحاحاً لا يقبل بكلمة لا، وكان على استعداد للسفر إلى جبل طارق لمقابلة السفير الأميركي في إسطنبول، مورغنتاو، لإقناع الولايات المتحدة بشن الحرب على الدولة العثمانية أيضاً وليس فقط على ألمانيا.
لكن ربما أهم ما يقول به الدكتور منصور هو أن النكبة الفلسطينية عملياً، بدأت مع إطلاق تصريح بلفور، وليس في عام 1948، لأنه مع إعلان التصريح بدأت بريطانيا، ومعها اليهود، بالعمل على أرض الواقع لتنفيذ وتطبيق الوعد البريطاني، على أرض الواقع، فانطلقت الحركة الصهيونية في بناء مؤسساتها في فلسطين، والمزاحمة داخل المؤسسات القائمة، مستفيدة بطبيعة الحال من تدويل الوعد، من خلال إدراجه في صك الانتداب البريطاني على فلسطين من قبل عصبة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى في عام 1922. هي إذاً بداية النكبة الفلسطينية، كما يقول منصور في كتابه، مع اعتراف بريطانيا بالوكالة اليهودية كممثل لليهود في فلسطين، وتضمن صك الانتداب البنود التي تكلف بريطانيا إدارة شؤون فلسطين لحين وصولها إلى مرحلة الاستقلال، باشتراط الاعتراف باليهود فيها وبالأعياد اليهودية وباللغة العبرية المكتوبة بحروف عبرية وما إلى ذلك. وقاد ذلك إلى بدء عمل اليهود لتشكيل الدولة الإسرائيلية، بعد دخول البريطانيين لفلسطين بقيادة الجنرال اللنبي، وبدء بناء المؤسسات اليهودية الصهيونية المختلفة من جامعات ومؤسسات يهودية أخرى وأبرزها البعد العسكري، عبر إقامة تنظيم "هشومير"، ومن ثم باقي التنظيمات الصهيونية المسلحة وصولاً إلى تشكل قوات "الهاغاناة"، وفتح باب الهجرة والتلاعب بأعدادهم، وبيع الأراضي، ووضع اليهود في الوظائف الرئيسية والمفتاحية، مع بدء عمليات الاقتلاع من القرى، بدءاً من مرج بن عامر، وهي قرى تسمى مندثرة، وتفريغ للمناطق الرئيسية في فلسطين في مرج بن عامر، ومنابع الحولة. ومقابل كل هذا لم يكن لدى الفلسطينيين تنظيم سياسي أو اقتصادي أو عسكري.
وفي سياق الحديث عما بعد خلفيات تصريح بلفور، يلفت إلى جملة المحافظة على الحقوق المدنية والدينية لغير اليهود، بما يعكس التعامل مع الفلسطينيين كطوائف وليس كشعب، وهو ما تواصل حتى يومنا هذا ونشهده في تعامل إسرائيل معنا في الداخل من نفس المنظور. ومع أن منصور حاول الابتعاد عن السياسة الراهنة، إلا أنه يرى في المطلب الفلسطيني باعتذار بريطانيا عن وعد بلفور، بأنه مطلب شرعي، وأن الشارع البريطاني، وليس الحكومة، يوافق على هذا المطلب بما في ذلك مراجعة سياسة الدولة. وهو يرى أن هناك حراكاً سياسياً بريطانياً في هذا الاتجاه. لكن منصور يقر بأن رفض بريطانيا وإسرائيل الاعتذار عن الوعد ناجم عن النتائج التي ستترتب على هذا الاعتذار والسعي لتصحيح الغبن. ومع نقل بريطانيا الوعد إلى نص الانتداب، كرس تصريح بلفور كوثيقة دولية في عصبة الأمم، واليوم في الأمم المتحدة حيث تم تصحيح بلفور، بحسب رأيه، من خلال قرار التقسيم 181 الذي تحدث عن دولة يهودية وأخرى عربية.
مع ذلك يرى منصور أنه وعلى الرغم من المأساة الفلسطينية وبعد 70 سنة على قرار التقسيم، ومائة عام على تصريح بلفور، فإن آفاق الحلم الفلسطيني بدولة، وفق معادلة (دولتان لشعبين)، باتت ضيقة للغاية، وأن هذا الحل انتهى نهائياً، إذ لا يمكن إقامة دولتين في الظروف الراهنة ووفقاً للواقع الاستيطاني المقبل، إلا إذا وافق الفلسطينيون على حكم ذاتي بلدياتي ضيق، وتفصل بين كل مدينة ومحيطها أحزمة من المستوطنات، مع تحول الفلسطينيين المقدسيين إلى أفراد يعيشون في أحياء خاصة بهم في حال تم إقرار قانون القدس الكبرى. ويخلص منصور إلى القول إن الحل الوحيد المستقبلي هو بإقامة دولة واحدة، يكون فيها الفلسطينيون 55 في المائة، لكن مثل هذا لن تقبل به إسرائيل لأنه يعني زوالها، أو قد يتجه الاحتلال إلى صيغة حال مشابهة لكتالونيا، وهو ما سيرفضه الفلسطينيون، وقد يقبلون بحل مؤقت، مع استمرار الصراع لعقود مقبلة (30 إلى 40 سنة) وصولاً إلى دولة واحدة، وهو الأمر الوحيد الذي سيكون قادراً على نسف تصريح بلفور.
جوني منصور
محاضر في قسم التاريخ في الكلّيّة الأكاديميّة "بيت بيرل"، ويعمل في حقل التربية والتعليم منذ 37 سنة، وهو ناشط اجتماعيّ وسياسيّ في أطر مختلفة. له إصدارات وأبحاث عديدة في مجال التاريخ، منها "شوارع حيفا العربيّة"، "الاستيطان الإسرائيلي"، "مسافة بين دولتين"، "إسرائيل الأخرى"، "الخطّ الحديدي الحجازي"، "الأعياد والمواسم في الحضارة العربية"، "المدينة الفلسطينية في فترة الانتداب البريطاني"، "المؤسسة العسكرية في إسرائيل"، "حيفا، الكلمة التي صارت مدينة"، و"خارطة حيفا العربية".