جارنا الذي وصل إلى مرحلة التقاعد، لم يبدُ في أفضل أحواله. فجأة، بدأت عوارض الأمراض المتنوعة تهاجمه، وبدا عليه التقدم بالعمر. كأنه كان يخزن هيئته المسنّة هذه إلى ما بعد التقاعد. صار وعلى ما يبدو بقرار شخصي وعناد صامت، بلا حياة اجتماعية. يجلس معظم وقته في البيت مرتدياً البيجاما أمام التلفزيون.
زوجته التي تصغره بأعوام قليلة استمرت بالقيام بالأعمال الروتينيّة، من تنظيف وطبخ وغيرها، مع فارق "بسيط" وطارئ هو وجود زوجها الذي يتنقل في البيت حائراً، سائلاً، متدخلاً في كل التفاصيل. صارت تنهره إذا دخل المطبخ أثناء تحضيرها للطعام. تتأفف وتشكو الجيران "الرجّال ما بينطاق إذا قعد بالبيت"، وتطالبه بالخروج ليلتقي بأقاربه وأصحابه، لكنّه أصرّ على الانعزال.
لم تفهم جارتنا أن ما يمر به زوجها هو كآبة مرضية حادة. إحدى المراحل النفسية التي تلي التقاعد، والتي قد يتم تجاوزها لاحقاً، أو قد لا يتم ذلك على الإطلاق! فالتقاعد، كغيره من المحطات الأساسية في الحياة، تنتج منه حالات نفسية متنوعة، على المرء أن يتأقلم معها لكي تستمر الحياة، فتستقر على الوضع الجديد.
وقد يظن البعض أن مرحلة التقاعد هي مرحلة الراحة من تعب العمل وإمضاء الحياة في إجازة دائمة. وقد يصل بعضهم إلى ما يشبه ذلك من هدوء واستقرار، ولكن من الصعب أن يتم من دون المرور بمرحلة الشعور بفقدان القيمة وضياع الهوية.
يختبر الشخص مشاعر متعددة بعد وصوله إلى سن التقاعد. ففي البداية، يأتي الشعور بالفرح والتحرر من الروتين والجهد اليومي للوظيفة. لكن سرعان ما يلي ذلك مرحلة الملل والحيرة أمام الطرق التي يجب اعتمادها لتمرير الوقت. يختفي الإحساس بمتعة الإجازة، وتبدأ أسئلة من نوع آخر: من أنا الآن؟ ما هو الهدف الذي أعيش من أجله؟ هل انتهت حياتي؟ هل صرت عجوزاً ينتظر النهاية؟
إنها مرحلة الكآبة والانهيار الصامت المترافق مع أزمات صحية تجعل الإحساس بالعمر أشد وطأة. تتراوح حدة هذه المرحلة بحسب الأشخاص، فالذين يربطون هويتهم بنوع العمل الذي يؤدونه يصعب عليهم الخروج من تلك المرحلة بسلاسة. بل إنهم قد يستقرون فيها ما بقي من عمرهم، كما حصل مع جارنا. أما الذين يعون أنهم أكثر من مجرد وظيفة، فهم قادرون على ابتكار حلول لعمرهم الباقي والمضي بحياتهم نحو اهتمامات ومشاغل جديدة أو مؤجلة.
أذكر جلوسي في مقهى المودكا في شارع الحمرا أثناء دراستي الجامعية، كنت ألتقي بمجموعة من المتقاعدين الجالسين إلى الطاولة نفسها. كانوا يشربون قهوتهم، يقرأون جرائدهم، يتناقشون، يمزحون، يتناولون أوضاع السياسة والأحفاد والأدوية الواجب تناولها. يمضون وقت ما قبل الظهر معاً بشكل شبه يومي ليفرّقهم وقت الغداء والعودة إلى بيوتهم. كنت أحب التحدث إليهم ويشعرني حضورهم اللطيف والمتصالح مع نفسه أنّ الحياة يمكن أن تكون هانئة لمجرد التقدم في العمر.
زوجته التي تصغره بأعوام قليلة استمرت بالقيام بالأعمال الروتينيّة، من تنظيف وطبخ وغيرها، مع فارق "بسيط" وطارئ هو وجود زوجها الذي يتنقل في البيت حائراً، سائلاً، متدخلاً في كل التفاصيل. صارت تنهره إذا دخل المطبخ أثناء تحضيرها للطعام. تتأفف وتشكو الجيران "الرجّال ما بينطاق إذا قعد بالبيت"، وتطالبه بالخروج ليلتقي بأقاربه وأصحابه، لكنّه أصرّ على الانعزال.
لم تفهم جارتنا أن ما يمر به زوجها هو كآبة مرضية حادة. إحدى المراحل النفسية التي تلي التقاعد، والتي قد يتم تجاوزها لاحقاً، أو قد لا يتم ذلك على الإطلاق! فالتقاعد، كغيره من المحطات الأساسية في الحياة، تنتج منه حالات نفسية متنوعة، على المرء أن يتأقلم معها لكي تستمر الحياة، فتستقر على الوضع الجديد.
وقد يظن البعض أن مرحلة التقاعد هي مرحلة الراحة من تعب العمل وإمضاء الحياة في إجازة دائمة. وقد يصل بعضهم إلى ما يشبه ذلك من هدوء واستقرار، ولكن من الصعب أن يتم من دون المرور بمرحلة الشعور بفقدان القيمة وضياع الهوية.
يختبر الشخص مشاعر متعددة بعد وصوله إلى سن التقاعد. ففي البداية، يأتي الشعور بالفرح والتحرر من الروتين والجهد اليومي للوظيفة. لكن سرعان ما يلي ذلك مرحلة الملل والحيرة أمام الطرق التي يجب اعتمادها لتمرير الوقت. يختفي الإحساس بمتعة الإجازة، وتبدأ أسئلة من نوع آخر: من أنا الآن؟ ما هو الهدف الذي أعيش من أجله؟ هل انتهت حياتي؟ هل صرت عجوزاً ينتظر النهاية؟
إنها مرحلة الكآبة والانهيار الصامت المترافق مع أزمات صحية تجعل الإحساس بالعمر أشد وطأة. تتراوح حدة هذه المرحلة بحسب الأشخاص، فالذين يربطون هويتهم بنوع العمل الذي يؤدونه يصعب عليهم الخروج من تلك المرحلة بسلاسة. بل إنهم قد يستقرون فيها ما بقي من عمرهم، كما حصل مع جارنا. أما الذين يعون أنهم أكثر من مجرد وظيفة، فهم قادرون على ابتكار حلول لعمرهم الباقي والمضي بحياتهم نحو اهتمامات ومشاغل جديدة أو مؤجلة.
أذكر جلوسي في مقهى المودكا في شارع الحمرا أثناء دراستي الجامعية، كنت ألتقي بمجموعة من المتقاعدين الجالسين إلى الطاولة نفسها. كانوا يشربون قهوتهم، يقرأون جرائدهم، يتناقشون، يمزحون، يتناولون أوضاع السياسة والأحفاد والأدوية الواجب تناولها. يمضون وقت ما قبل الظهر معاً بشكل شبه يومي ليفرّقهم وقت الغداء والعودة إلى بيوتهم. كنت أحب التحدث إليهم ويشعرني حضورهم اللطيف والمتصالح مع نفسه أنّ الحياة يمكن أن تكون هانئة لمجرد التقدم في العمر.