14 نوفمبر 2024
المغرب.. الحاجة إلى الخيار الثالث
تثير محاولة حصر الصراع الحزبي في المغرب بين حزبي العدالة والتنمية الإسلامي والأصالة والمعاصرة القريب من السلطة عدة أسئلةٍ، بشأن النزوع نحو إعادة تحديد الأدوار والوظائف وتوزيعها داخل الحقل السياسي، وذلك وفق ميزان القوى الذي أفرزته مرحلة ما بعد انتكاسة الربيع العربي، وهو وضعٌ يبدو أن لا مكان فيه لأحزاب اليسار، بمختلف تشكيلاتها الإصلاحية والراديكالية.
ويمكن القول إن الرغبة في بناء حالة استقطاب ثنائي بين قوتين سياسيتين، إسلامية محافظة يمثلها حزب العدالة والتنمية، و(حداثية!) يمثلها حزب الأصالة والمعاصرة، تعبّر عما استجد من رهاناتٍ تتعلق بإدارة الصراع السياسي في المغرب، والتي لا تبدو بعيدةً عن التحولات التي عرفها اليسار الإصلاحي (حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تحديداً) خلال العقدين الأخيرين، والتي أفضت إلى تراجعه التنظيمي والسياسي بشكل غير مسبوق، واكتفائه بالمشاركة في حكوماتٍ ائتلافيةٍ مع أحزابٍ، طالما نعتها بأنها صنيعة السلطة. هذا التراجع ناتج عن عجز هذا اليسار عن إنجاز مراجعاتٍ فكريةٍ وسياسيةٍ جريئة لخطابه وأدائه. وإذا كان لا يختلف كثيراً عن باقي مكونات اليسار العربي، فيما يخص إخفاقه في القيام بمراجعات شاملة بعد الزلزال الذي أحدثه سقوط المعسكر الشرقي، قبل أكثر من ربع قرن، فإن الشروط الداخلية زادت من حدّة هذا الإخفاق، خصوصاً بعد الانشقاقات التي عرفها الاتحاد الاشتراكي (أبرزها انشقاق الجناح النقابي عام 2001)، وعدم توافق أحزاب اليسار المختلفة على سقفٍ معينٍ للإصلاح الدستوري والسياسي، بسبب تباين مرجعياتها الإيديولوجية، ورحيل الزعامات التاريخية، وتفاقم أزمة الديمقراطية الداخلية، هذا من دون إغفال التحولات السوسيولوجية والقيمية التي أسهمت في تحويل اليسار الإصلاحي إلى موردٍ رئيسيٍّ لتزويد السلطة بالنخب الجديدة، لا سيما بعد قراره المشاركة في حكومة إدريس جطو عام 2002، على الرغم من ''الانقلاب على المنهجية الديمقراطية'' الذي مثله تعيين الأخير على رأس الحكومة نفسها، كما جاء في البيان الشهير للاتحاد الاشتراكي.
زيادة على ذلك، لم يستوعب هذا اليسار تحولات الفكر السياسي في العالم، بعد نهاية الحرب الباردة، والذي بات أكثر انفتاحاً على قضايا جديدة. ولعل ذلك جعله عاجزاً عن التفاعل بإيجابيةٍ مع محطاتٍ داخليةٍ مفصليةٍ مثل العدالة الانتقالية، والمسألة الاجتماعية، وتفاقم المديونية
الخارجية، وتردّي التعليم، وفوز الإسلاميين في الانتخابات التشريعية في 2011 والمحلية في 2015. في ضوء ذلك، تبدو الحاجة ملحةً لخيارٍ ثالث، لا يقتصر على استعارة خطابٍ عام وفضفاض حول الديمقراطية والحداثة والعقلانية، بل يعمل على اختبار مدى نجاعة هذه المفاهيم في ضوء السياق المجتمعي المغربي. وبالتالي، بلورة رؤيةٍ يساريةٍ أكثر فهماً لهذا السياق الذي يظل على صلةٍ بكل ما يحدث في العالم بفضل ثورة الاتصالات الحديثة؛ حاجة تندرج ضمن أفقٍ لا يقتصر على قضايا المرجعية والهوية السياسية، بل تتعدّاه إلى كيفية إدارة الصراع السياسي والاجتماعي، انطلاقاً مما تطرحه المتغيرات المجتمعية من إكراهاتٍ متباينة. ذلك كله يمر عبر مداخل متعدّدة، أبرزها التفكيرُ في تجسير الهوة بين اليسار والطبقة الوسطى التي شكلت محور أهم التحولات السوسيولوجية التي عرفها المجتمع خلال العقود الأخيرة. فهذه الطبقة التي مثَّلت، بكل شرائحها، الحاضنة الاجتماعية والثقافية لهذا اليسار، باتت أكثر إقبالاً على الخطاب السياسي الإسلامي، واستهلاكاً لرؤيته في السياسة والاجتماع والثقافة، هذا فضلاً عن أن منظومتها القيمية تعرّضت لتأثيراتٍ عميقة انعكست في مختلف أشكال الوعي والسلوك، الأمر الذي يجعلنا إزاءَ قطاعاتٍ واسعةٍ من المجتمع تعيش حالة تسييس جديدة من خارج الحقل الحزبي التقليدي، وخصوصاً مع الـتأثير البالغ الذي صارت تلعبه وسائط الاتصال الحديثة.
خسر اليسار الإصلاحي معركة إصلاح النظام السياسي من الداخل، لأسبابٍ قد يطول الخوض فيها، لكن أبرزها كان عدم زجّه قضايا المجتمع ومشكلاته في جدليات الصراع السياسي، ضمن رؤية سياسيةٍ متسقةٍ ومتوازنةٍ لا تفصل بين تحديث مؤسسات الدولة، وتحديث بنيات المجتمع عبر مداخل بنيويةٍ، مثل التعليم والطبقة الوسطى وحقوق المرأة والمجتمع المدني. أما بالنسبة لأحزاب اليسار الراديكالي، فهي وإن كانت أكثر تقدماً في طرحها قضية الإصلاح الدستوري والسياسي، كما الشأن بالنسبة لحزب اليسار الاشتراكي الموحد الذي يطالب بملكيةٍ برلمانيةٍ، يسود فيها الملك ولا يحكم، إلا أن تأرجحها بين المشاركة وعدمها في الاستحقاقات الانتخابية يعكس تخبطاً فكرياً وسياسياً وعجزاً عن التفاعل مع المستجدّات الداخلية والخارجية، خصوصاً في ما يتعلق باتساع مساحات التطرّف الديني داخل المجتمع، وتحول الإسلام السياسي المعتدل إلى رقم أساسي في الحياة السياسية، وتشكل قراءات متطرّفة مضادة للدولة الوطنية وأدوارها الداخلية والخارجية، ومستقبل القرار الاقتصادي الوطني في ظل سطوة مؤسسات التمويل الدولي، وتغوّل الرأسمالية الجديدة.
لا يهدّد العمل على تقديم المحطة الانتخابية المقبلة تنافساً بين خيارين اثنين الانفتاح السياسي النسبي الذي يعرفه المغرب فقط، بل يضعف الحقل الحزبي أكثر، ويحدّ من دوره التحديثي المفترض. لذلك، يبدو اليسار المغربي مدعواً إلى إعادة بناء علاقته بالمجتمع، انطلاقاً من انفتاحٍ أكثر وعياً على ما يستجد داخل هذا المجتمع من متغيرات.
ويمكن القول إن الرغبة في بناء حالة استقطاب ثنائي بين قوتين سياسيتين، إسلامية محافظة يمثلها حزب العدالة والتنمية، و(حداثية!) يمثلها حزب الأصالة والمعاصرة، تعبّر عما استجد من رهاناتٍ تتعلق بإدارة الصراع السياسي في المغرب، والتي لا تبدو بعيدةً عن التحولات التي عرفها اليسار الإصلاحي (حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تحديداً) خلال العقدين الأخيرين، والتي أفضت إلى تراجعه التنظيمي والسياسي بشكل غير مسبوق، واكتفائه بالمشاركة في حكوماتٍ ائتلافيةٍ مع أحزابٍ، طالما نعتها بأنها صنيعة السلطة. هذا التراجع ناتج عن عجز هذا اليسار عن إنجاز مراجعاتٍ فكريةٍ وسياسيةٍ جريئة لخطابه وأدائه. وإذا كان لا يختلف كثيراً عن باقي مكونات اليسار العربي، فيما يخص إخفاقه في القيام بمراجعات شاملة بعد الزلزال الذي أحدثه سقوط المعسكر الشرقي، قبل أكثر من ربع قرن، فإن الشروط الداخلية زادت من حدّة هذا الإخفاق، خصوصاً بعد الانشقاقات التي عرفها الاتحاد الاشتراكي (أبرزها انشقاق الجناح النقابي عام 2001)، وعدم توافق أحزاب اليسار المختلفة على سقفٍ معينٍ للإصلاح الدستوري والسياسي، بسبب تباين مرجعياتها الإيديولوجية، ورحيل الزعامات التاريخية، وتفاقم أزمة الديمقراطية الداخلية، هذا من دون إغفال التحولات السوسيولوجية والقيمية التي أسهمت في تحويل اليسار الإصلاحي إلى موردٍ رئيسيٍّ لتزويد السلطة بالنخب الجديدة، لا سيما بعد قراره المشاركة في حكومة إدريس جطو عام 2002، على الرغم من ''الانقلاب على المنهجية الديمقراطية'' الذي مثله تعيين الأخير على رأس الحكومة نفسها، كما جاء في البيان الشهير للاتحاد الاشتراكي.
زيادة على ذلك، لم يستوعب هذا اليسار تحولات الفكر السياسي في العالم، بعد نهاية الحرب الباردة، والذي بات أكثر انفتاحاً على قضايا جديدة. ولعل ذلك جعله عاجزاً عن التفاعل بإيجابيةٍ مع محطاتٍ داخليةٍ مفصليةٍ مثل العدالة الانتقالية، والمسألة الاجتماعية، وتفاقم المديونية
خسر اليسار الإصلاحي معركة إصلاح النظام السياسي من الداخل، لأسبابٍ قد يطول الخوض فيها، لكن أبرزها كان عدم زجّه قضايا المجتمع ومشكلاته في جدليات الصراع السياسي، ضمن رؤية سياسيةٍ متسقةٍ ومتوازنةٍ لا تفصل بين تحديث مؤسسات الدولة، وتحديث بنيات المجتمع عبر مداخل بنيويةٍ، مثل التعليم والطبقة الوسطى وحقوق المرأة والمجتمع المدني. أما بالنسبة لأحزاب اليسار الراديكالي، فهي وإن كانت أكثر تقدماً في طرحها قضية الإصلاح الدستوري والسياسي، كما الشأن بالنسبة لحزب اليسار الاشتراكي الموحد الذي يطالب بملكيةٍ برلمانيةٍ، يسود فيها الملك ولا يحكم، إلا أن تأرجحها بين المشاركة وعدمها في الاستحقاقات الانتخابية يعكس تخبطاً فكرياً وسياسياً وعجزاً عن التفاعل مع المستجدّات الداخلية والخارجية، خصوصاً في ما يتعلق باتساع مساحات التطرّف الديني داخل المجتمع، وتحول الإسلام السياسي المعتدل إلى رقم أساسي في الحياة السياسية، وتشكل قراءات متطرّفة مضادة للدولة الوطنية وأدوارها الداخلية والخارجية، ومستقبل القرار الاقتصادي الوطني في ظل سطوة مؤسسات التمويل الدولي، وتغوّل الرأسمالية الجديدة.
لا يهدّد العمل على تقديم المحطة الانتخابية المقبلة تنافساً بين خيارين اثنين الانفتاح السياسي النسبي الذي يعرفه المغرب فقط، بل يضعف الحقل الحزبي أكثر، ويحدّ من دوره التحديثي المفترض. لذلك، يبدو اليسار المغربي مدعواً إلى إعادة بناء علاقته بالمجتمع، انطلاقاً من انفتاحٍ أكثر وعياً على ما يستجد داخل هذا المجتمع من متغيرات.