المغرب.. انتكاسة النقابات

09 مايو 2019
+ الخط -
يطرح الاتفاق الذي وقعته الحكومة وأرباب العمل وثلاث نقابات، في المغرب، أخيرا، سؤال الفعل النقابي ومستقبله في ضوء المتغيرات التي عرفتها السياسة المغربية خلال العقدين الأخيرين، فقد أصبح هذا الفعل أكثر ارتهانا لحسابات الدولة، بعد أن نجحت، إلى حد كبير، في التحكّم في إيقاعاته وتأطيره ضمن آلية الحوار الاجتماعي التي اجترحتها في منتصف التسعينيات، ضمن توافقها مع الأحزاب المتحدرة من الحركة الوطنية، وبالتالي، استطاعت بذلك التحكم في الحقل الاجتماعي وتطويع استراتيجياته المضادّة، لا سيما في ظل التحول النوعي الذي سيعرفه الفعل الاحتجاجي في المغرب بعد 2007. وإذا كان الإنصافُ يقتضي القولَ إن أزمة النقابات في المغرب لا تنفصل عن أزمةٍ بنيويةٍ تواجهها الدول في مختلف أنحاء العالم، جرّاء التحولات الحاصلة بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط المعسكر الشرقي، إلا أن ذلك لا يعفي النقابات المغربية من مسؤوليتها التاريخية في منعرجات اجتماعية كثيرة مهمة مر بها المغرب خلال الأعوام الأخيرة. فعلى الرغم من أن الاتفاق الموقَّع، قبل أسبوعين، نص على الزيادة في أجور موظفي القطاع العام (بين 36 و45 دولارا)، والرفع من الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص، والزيادة في التعويضات العائلية (بنسبة 9 دولارات)، إلا أن ذلك بدا لكثيرين ضحكا على ذقون المغاربة، ليس فقط بسبب هزالة هذه الزيادة، وعدم استجابتها لمطالب قطاعات اجتماعية واسعة، ولكن، أيضا، بسبب أداء هذه النقابات، وافتقادها القدرة التفاوضية التي امتلكها الرعيل الأول من القيادات النقابية المغربية، فكيف يعقلُ أن توقع على اتفاقٍ سبق أن رفضت مضامينه في 2016 على عهد حكومة الإسلاميين الأولى التي قادها عبد الإله بنكيران؟ أليس هذا تسييسا للملف الاجتماعي، وتلاعباً بتطلعات الفئات الوسطى والفقيرة لتحسين أوضاعها المعيشية؟ وهل كان لانفراد وزارة الداخلية المغربية بهندسة هذا الاتفاق علاقةٌ بقبول النقابات ما سبق أن رفضته في 2016؟
بات واضحا الآن أن رفض النقابات عرض حكومة بنكيران في 2016 كان محكوما بحسابات سياسية وانتخابية ضيقة، إذ كانت تتخوف من أن يستخلص حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) عائدات التوقيع على الاتفاق، ويستثمرها في الاستحقاق الانتخابي المرتقب آنذاك، ما يضعنا أمام أسئلة جوهرية ودالة، تتجاوز علاقة السياسي بالنقابي. سيكون لقبول النقابات العرض الذي رفضته قبل ثلاث سنوات تبعات سياسية على الحقل الاجتماعي، إذ ستكون مضطرة، أو بالأحرى مجبَرة، على سحب تأييدها الحركات الاجتماعية الأخرى التي تنشط خارج قواعد الفعل النقابي التقليدي، ما يعني انفراد الدولة بهذه الحركات، وتحكمها في إدارة توترات هذا الحقل وإعادة إنتاجها.
يتعلق الأمر بكلفةٍ سياسيةٍ أخرى ستدفعها هذه النقابات لقاء هذا الاتفاق، ويزداد الأمر دلالة في غياب مؤشراتٍ بشأن استجابة الدولة لباقي مخرجات اتفاق 26 إبريل/نيسان 2011، الأمر الذي يكرّس التراجع المريع لمؤسسات الوساطة التقليدية في المغرب، وعجزها عن تطويق تداعيات الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية لسياساتٍ عموميةٍ ترى السلم الأهلي والاجتماعي مجرد معادلةٍ ماليةٍ وتقنيةٍ بلا مضامين اجتماعية.
تندرج أزمة النقابات في المغرب ضمن أزمة كبرى تعرفها مؤسسات الوساطة، والتي تعود إلى أسباب كثيرة، أبرزها غياب الديمقراطية الداخلية، وانتشار ثقافة الريع والامتياز والانتهازية السياسية بين القيادات النقابية العليا والمتوسطة، والإخفاق التاريخي لهذه النقابات في شق مسارات مستقلة عن الأحزاب المتحدرة من الحركة الوطنية، ما يجعلها غير قادرة على تقديم اجتهاداتٍ عمليةٍ تُسهم في حلحلة الاحتقان الاجتماعي، هذا من دون أن نغفل أسبابا كونية على صلة بعجز النقابات، في مختلف أنحاء العالم، عن التعاطي مع تحولات سوق العمل، في ظل نجاح الرأسمالية الجديدة في فرض ما باتت تُعرف بـ''مرونة العمل'' التي تحيل على تقلص المكاسب الاجتماعية التي راكمتها الفئات الفقيرة والوسطى، ضمن سياق دولي اتسم بتوازن القوى الذي فرضته المواجهةُ الأيديولوجيةُ بين المعسكرين، الغربي والشرقي، عقودا طويلة.
تبدو النقابات المغربية، اليوم، عند مفترق الطرق، بعد أن فقدت كثيرا من عنفوانها، ولم تعد قادرةً على مجاراة الحركات الاجتماعية الجديدة التي بات صعودها اللافت، إبّان السنوات الأخيرة، مقلقا للسلطة والنخب.