14 نوفمبر 2024
المغرب.. فوز كبير للإسلاميين، ولكن
مثلت الانتخابات البلدية والجهوية التي شهدها المغرب في الرابع من سبتمبر/ أيلول الجاري منعطفاً نوعياً، ففضلاً عن أنها الأولى التي تجري بعد إقرار دستور عام 2011، يمكن اعتبارها خطوة لافتة على درب الاندماج الهادئ والسلس للإسلام السياسي المعتدل في بنيات السلطة وهياكلها المختلفة.
حل حزب العدالة والتنمية ثالثاً في الانتخابات المحلية، بعد أن حصل على 5021 مقعداً، أي بنسبة 15.94%، مضاعفا بذلك حصيلته من المقاعد أربع مرات، مقارنة باقتراع عام 2009، واستطاع أن يتصدر الانتخابات الجهوية بحصوله على 174 مقعداً، أي بنسبة 25.6 %، كما حصل في المجموع على أكثر من مليون ونصف صوت. ومع أهمية هذه النتائج من الناحية العددية، فإن دلالاتها السياسية تظل أقوى وأبلغ. ففي وقت حقق فيه حزب الأصالة والمعاصرة المحسوب، بشكل أو بآخر، على السلطة، فوزا واضحا في البوادي والأرياف، مستفيدا من شبكة علاقاته مع الأعيان، اكتسح الإسلاميون معظم المدن الكبرى، ذات الأهمية الاقتصادية والسياحية (الدار البيضاء، طنجة، القنيطرة، الرباط، فاس، مراكش، أكادير...). هذا يعني أن هؤلاء سيكون أمامهم هامش كبير للتحكم في تسييرها، خصوصاً إذا ما نجحوا في إدارة التحالفات التي ستحكم تشكيل مجالسها. كما أن الصلاحيات الواسعة التي تمنحها الجهوية المتقدمة، فيما يخص تنمية الحكم المحلي في الجماعات والجهات وتطويره، من شأنها أن تفتح كذلك آفاقا جديدة أمامهم، للتغلغل أكثر في مؤسسات العمل العام، وهو ما يطرح تساؤلات هنا حول الإغراء الذي قد يمارسه النموذج التركي عليهم، إذا علمنا أن جزءاً من قوة حزب العدالة والتنمية وإشعاعه في تركيا يعود إلى إنجازاته التي حققها في تسييره البلديات.
إضافة إلى ذلك، يكتسي فوز حزب العدالة والتنمية في هذه المدن بعداً سوسيولوجياً مهماً. فلأول مرة تصوت غالبية الطبقة الوسطى عليه، الأمر الذي يكتسي دلالــة خاصة، فزيادة على أن هذه الطبقة شكلت، على امتداد العقود الماضية، القاعدة السوسيو مهنية للأحزاب التقليدية الكبرى، فهي تتميز بأنها من روافد التحديث السياسي والاجتماعي، واختيارها أن تُصوت اليوم على حزب إسلامي محافظ لا تقاسمه التوجهات الإيديولوجية والفكرية نفسها، فيه رسالة واضحة ودالة للنخب السياسية الأخرى، بمعنى أن تصويتها كان نتيجة اقتناعها بخطابه، خصوصا فيما يتعلق بمكافحة الفساد. هناك متغيرات عميقة تجتاح بهدوء المجتمع المغربي، أدت إلى فك الارتباط الذي كان بين هذه الطبقة والنخب السالفة الذكر، وخصوصاً المنتمية لليسار، بسبب تراجع الأخير وعجزه المُدوي عن بلورة خطاب سياسي جديد، يواكب هذه المتغيرات ويتفاعل معها، ما يدفعنا للحديث، بشيء من الحذر، عما يعرف في سوسيولوجيا الانتخابات بالتصويت العقابي، والذي لا نستبعد أن شرائح واسعة من هذه الطبقة مارسته في المدن التي حقق فيها الإسلاميون فوزاً كبيراً.
من ناحية أخرى، نجح حزب العدالة والتنمية في توظيف خطاب "المظلومية السياسية"، وتصريفه بغير قليل من الذكاء داخل شرائح واسعة من الشارع، مستفيداً من قدرة رئيس
الحكومة على التواصل وإقناعها بأنه يواجه قوى الفساد والريع ومقاومة الإصلاح المنتشرة داخل بعض مواقع السلطة، وفي قطاعات حسّاسة، مثل المال والأعمال والإعلام، وهي القوى التي تنظر له وللحكومة التي يترأسها بعين الريبة، وتعتبرها غير مرغوب فيها، ألقى بها الحراك الشعبي، في لحظة منفلتة من الزمن السياسي المغربي، المحكوم بخصوصية لا علاقة لها بالمشرق العربي. كما أن المعارضة الشرسة التي أبدتها بعض الأحزاب لهذه الحكومة أنتجت أثراً عكسيـاً، وهو ما بدا جلياً في السقوط المدوي لزعيم حزب الاستقلال في مدينة فاس التي تعتبر القلعة التاريخية الحصينة لهذا الحزب. امتدت هذه المظلومية إلى المحيط الإقليمي، من خلال التعاطف الذي أبدته فئات مختلفة من الشارع مع محنة الإسلام السياسي في مصر، بعد الانقلاب الذي نفذه العسكر على الشرعية، وانتهى باعتقال الرئيس محمد مرسي والزج بقيادات إسلامية بارزة في السجون والمعتقلات.
لكن، على الرغم من هذا الإنجاز التاريخي، هناك معطيات لا ينبغي التقليل من شأنها، فهناك تحد كبير أمام الحزب، يتمثل في مدى قدرته على التخفيف من الكلفة السياسية المحتملة لفوزه هذا، في الداخل والخارج. فلا تزال هناك جهات متنفذة في بعض مؤسسات الدولة منزعجة من وجوده على رأس الحكومة، وتزايد شعبيته في الشارع، على الرغم من البرغماتية الواضحة التي تطبع أداءه السياسي بوجه عام. وباكتساحه الحواضر الكبرى في هذه الانتخابات، قد يتحول انزعاجها إلى خوف متصاعد، يرى فيما حدث خلخلة للتوازنات القائمة داخل المشهد الحزبي، والتي يحكمها التعايش المتحكَّمُ فيه من القصر والدوائر المرتبطة به، على أساس العمل على تجنب كل ما من شأنه أن يفضي إلى هيمنة حزب واحد على هذا المشهد. كما قد يشكل هذا الاكتساح بالنسبة لبعض الشرائح الاجتماعية، ذات التوجه الليبرالي، تهديدا لبعض المكتسبات الخاصة بالحقوق والحريات، وبالتالي، مقدمةً لهيمنة الخطاب الإسلامي المحافظ داخل المجتمع، خصوصاً مع التراجع المريع لقوى اليسار التي كان يفترض أن تشكل عنصر توازن، بشكل أو بآخر، حيال صعود الإسلاميين. وعلى الصعيد الإقليمي العربي، جاء هذا الفوز في وقت تعرف فيه الأحزاب الإسلامية انتكاسة كبرى في بلدان الربيع العربي، وصعوداً، في المقابل، لقوى الثورة المضادة. من هنا، سيثير فوز حزب العدالة والتنمية حفيظة أطراف كثيرة، تعتبر الحزب فرعا مغربيا للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وهو ما يطرح أمام الحزب تحديات أكثر صعوبة، فيما يتعلق بقدرته على التواصل مع مختلف القوى الخارجية، وإقناعها بمشروعه المعتدل، ضمن أفق يسعى إلى المساهمة في تعزيز صورة المغرب بلداً نجح، إلى حد كبير، في أن يخط لنفسه مساراً مختلفاً في التفاعل مع بركان الربيع العربي الذي لا زال يلقي بحممه الملتهبة في كل اتجاه.
حل حزب العدالة والتنمية ثالثاً في الانتخابات المحلية، بعد أن حصل على 5021 مقعداً، أي بنسبة 15.94%، مضاعفا بذلك حصيلته من المقاعد أربع مرات، مقارنة باقتراع عام 2009، واستطاع أن يتصدر الانتخابات الجهوية بحصوله على 174 مقعداً، أي بنسبة 25.6 %، كما حصل في المجموع على أكثر من مليون ونصف صوت. ومع أهمية هذه النتائج من الناحية العددية، فإن دلالاتها السياسية تظل أقوى وأبلغ. ففي وقت حقق فيه حزب الأصالة والمعاصرة المحسوب، بشكل أو بآخر، على السلطة، فوزا واضحا في البوادي والأرياف، مستفيدا من شبكة علاقاته مع الأعيان، اكتسح الإسلاميون معظم المدن الكبرى، ذات الأهمية الاقتصادية والسياحية (الدار البيضاء، طنجة، القنيطرة، الرباط، فاس، مراكش، أكادير...). هذا يعني أن هؤلاء سيكون أمامهم هامش كبير للتحكم في تسييرها، خصوصاً إذا ما نجحوا في إدارة التحالفات التي ستحكم تشكيل مجالسها. كما أن الصلاحيات الواسعة التي تمنحها الجهوية المتقدمة، فيما يخص تنمية الحكم المحلي في الجماعات والجهات وتطويره، من شأنها أن تفتح كذلك آفاقا جديدة أمامهم، للتغلغل أكثر في مؤسسات العمل العام، وهو ما يطرح تساؤلات هنا حول الإغراء الذي قد يمارسه النموذج التركي عليهم، إذا علمنا أن جزءاً من قوة حزب العدالة والتنمية وإشعاعه في تركيا يعود إلى إنجازاته التي حققها في تسييره البلديات.
إضافة إلى ذلك، يكتسي فوز حزب العدالة والتنمية في هذه المدن بعداً سوسيولوجياً مهماً. فلأول مرة تصوت غالبية الطبقة الوسطى عليه، الأمر الذي يكتسي دلالــة خاصة، فزيادة على أن هذه الطبقة شكلت، على امتداد العقود الماضية، القاعدة السوسيو مهنية للأحزاب التقليدية الكبرى، فهي تتميز بأنها من روافد التحديث السياسي والاجتماعي، واختيارها أن تُصوت اليوم على حزب إسلامي محافظ لا تقاسمه التوجهات الإيديولوجية والفكرية نفسها، فيه رسالة واضحة ودالة للنخب السياسية الأخرى، بمعنى أن تصويتها كان نتيجة اقتناعها بخطابه، خصوصا فيما يتعلق بمكافحة الفساد. هناك متغيرات عميقة تجتاح بهدوء المجتمع المغربي، أدت إلى فك الارتباط الذي كان بين هذه الطبقة والنخب السالفة الذكر، وخصوصاً المنتمية لليسار، بسبب تراجع الأخير وعجزه المُدوي عن بلورة خطاب سياسي جديد، يواكب هذه المتغيرات ويتفاعل معها، ما يدفعنا للحديث، بشيء من الحذر، عما يعرف في سوسيولوجيا الانتخابات بالتصويت العقابي، والذي لا نستبعد أن شرائح واسعة من هذه الطبقة مارسته في المدن التي حقق فيها الإسلاميون فوزاً كبيراً.
من ناحية أخرى، نجح حزب العدالة والتنمية في توظيف خطاب "المظلومية السياسية"، وتصريفه بغير قليل من الذكاء داخل شرائح واسعة من الشارع، مستفيداً من قدرة رئيس
لكن، على الرغم من هذا الإنجاز التاريخي، هناك معطيات لا ينبغي التقليل من شأنها، فهناك تحد كبير أمام الحزب، يتمثل في مدى قدرته على التخفيف من الكلفة السياسية المحتملة لفوزه هذا، في الداخل والخارج. فلا تزال هناك جهات متنفذة في بعض مؤسسات الدولة منزعجة من وجوده على رأس الحكومة، وتزايد شعبيته في الشارع، على الرغم من البرغماتية الواضحة التي تطبع أداءه السياسي بوجه عام. وباكتساحه الحواضر الكبرى في هذه الانتخابات، قد يتحول انزعاجها إلى خوف متصاعد، يرى فيما حدث خلخلة للتوازنات القائمة داخل المشهد الحزبي، والتي يحكمها التعايش المتحكَّمُ فيه من القصر والدوائر المرتبطة به، على أساس العمل على تجنب كل ما من شأنه أن يفضي إلى هيمنة حزب واحد على هذا المشهد. كما قد يشكل هذا الاكتساح بالنسبة لبعض الشرائح الاجتماعية، ذات التوجه الليبرالي، تهديدا لبعض المكتسبات الخاصة بالحقوق والحريات، وبالتالي، مقدمةً لهيمنة الخطاب الإسلامي المحافظ داخل المجتمع، خصوصاً مع التراجع المريع لقوى اليسار التي كان يفترض أن تشكل عنصر توازن، بشكل أو بآخر، حيال صعود الإسلاميين. وعلى الصعيد الإقليمي العربي، جاء هذا الفوز في وقت تعرف فيه الأحزاب الإسلامية انتكاسة كبرى في بلدان الربيع العربي، وصعوداً، في المقابل، لقوى الثورة المضادة. من هنا، سيثير فوز حزب العدالة والتنمية حفيظة أطراف كثيرة، تعتبر الحزب فرعا مغربيا للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وهو ما يطرح أمام الحزب تحديات أكثر صعوبة، فيما يتعلق بقدرته على التواصل مع مختلف القوى الخارجية، وإقناعها بمشروعه المعتدل، ضمن أفق يسعى إلى المساهمة في تعزيز صورة المغرب بلداً نجح، إلى حد كبير، في أن يخط لنفسه مساراً مختلفاً في التفاعل مع بركان الربيع العربي الذي لا زال يلقي بحممه الملتهبة في كل اتجاه.