يبدو أن الروائي المصري قد امتثل لنصيحة أستاذه نجيب محفوظ بتوسيع "لوحة ألوان" الرواية العربية حتى لا تنحصر في الحارات والأزقة، فراح المنسي قنديل يبحث عن جغرافيا مختلفة. وبعد تناوله لقضية الهوية العربية في روايته الأشهر "قمر على سمرقند"، من خلال رحلة طبيب مصري إلى أوزبكستان وكازاخستان، نجده في "كتيبة سوداء" يتناول لحظة مجهولة من تاريخ العبودية والقهر، من خلال رحلة كتيبة مكوّنة من جنود سودانيين ومصريين، شاركت في حرب في المكسيك تحت لواء الجيش الفرنسي.
يعود قنديل إلى عام 1863 عندما طلب نابليون الثالث من الخديوي سعيد مساعدته في الحرب على المكسيك، فأرسل له كتيبة تتكون من حوالي 500 جندي أسود، وظلت هذه الواقعة التاريخية طي النسيان حتى عام 1933، حين كتب عنها عمر طوسون باشا كتاباً بعنوان "بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك"، وثَّق فيه مراسلات الخديوي مع القادة، لكن قلّة المصادر حول تلك الواقعة جعلت قنديل يقوم برحلة إلى المكسيك ليبحث بنفسه حول تلك المرحلة.
إن التاريخ، كما يقول قنديل لـ"العربي الجديد"، "ينقسم إلى "تاريخ كبير" يقوم على أكتاف الملوك والأباطرة والتغيّرات التاريخية الكبرى، و"تاريخ صغير" يرصد تفاصيل حياة عوام الناس". يضيف قائلاً: "أحاول دائماً أن أهتم بقراءة التاريخ الصغير لهؤلاء ما بين سطور التاريخ الكبير". قد تفسّر هذه الكلمات انشغاله في "كتيبة سوداء" بوضع أحلام الملوك وصراعات القوى الكبرى جبناً إلى جنب مع المصير الإنساني لكتيبة من الجنود السود المجهولين.
بلغة رصينة يتنقل الكاتب المصري بين عوالم روايته، من أفريقيا إلى النمسا والمكسيك، مسلّطاً الضوء على المظالم التي تعرّض لها الجنود السود، بإقحامهم في لعبة لا يعرفون مداها، يتحكم في مصيرهم أباطرة وملوك وملكات أوروبا، بصراعاتهم التي لا تهدأ، بدءاً بمغامرة فرنسا في حرب المكسيك ثم هزيمتها الساحقة أمام الجيش الألماني، وصولاً إلى صعود إنجلترا بقوة للسيطرة على العالم. وفي هذا السياق، يرى قنديل أن هزيمة فرنسا في المكسيك كانت سبباً في اختلال التوازن الدولي، وهو ما جرّأ انجلترا على ضرب الإسكندرية واحتلال مصر لثمانين عاماً.
حاول المؤلف في روايته الإفلات من شرك الحكايات التاريخية المجردة، فلجأ إلى معالجة التاريخ بالخرافة، كما في حديثه عن رحلة "ود الزبير"، تاجر الرقيق، حين يواجه أحراج ومستنقعات "بحر الغزال" وتماسيحها العملاقة ثم جنود سلطان "الدنكا" الذي سيعقد معه صفقة تبادل عبيد ببنادق.
وتحت سقف قضايا كبرى، مثل مخططات الاستعمار والعلاقات الدولية، يلقي قنديل بحكايات صغيرة، مثل حكاية "البرنسيسة" الفرنسية التي طلبت من التاجر رأس خرتيت، لاعتقادها أن سر الشباب يوجد في قرن الخرتيت، ثم أبلغت عنه سلطات الخديوي فصادرت أمواله، وأرسلت عبيده إلى حرب المكسيك، فشاركوا في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.