جلستْ بجانبي، كانتْ صغيرةً تحدقُ بيديّ المجعدتين ووجهي المتشقق، وشفاهي الجافة كقلبي حين بلغت الخمسين.
- مم تخاف يا جدي؟
أربكتني طيبتها، أكثر من خوفي، الإجابة لا تعني شيئاً لها، صارت أموري التي أحب والتي أكره بعيدة كحرب، لم أعرف من أين أبدأ، لكنها حين ضحكت، رقص المهرج في داخلي، ولم أرقص.
قلت كما تذكرت أنّ أقول لأي شخص قبل فراق، أخاف من فقد الذاكرة، والموت وحيداً كما حييت، أخاف من افتقادي لقهقهة العابرين على شكلي والنحول الذي رافقني منذ كنت شاباً .
كم كنت بعيداً عن كل هذا، انعزلت عن الحياة في بداية الأربعين، أنهيت روايتين، ولم أنشرهما، حاولت شعراً ولم أرتو، رسمت وجه أمي أكثر من ألف مرة، مرةً كان لوحة رمل ابتلعها البحر، ومرةً كان لوحة من ألوان مائية غسلها المطر، ومرةً كان من فحم أحرقته الحرب وغربتي.
الطفلة تبتسم كأنّ الأمر سهل، تماماً كما كانت أعراسنا تتسم بضحكة كل الأعمار، قلت بأنّني اشتقت لصوت الحجة تعد على الموليا، واشتقت لطقس الصمدة والحناء و"عداويات العرايسي"، كان العرس يعني أنّ نفرغ البيت، تأتي النساء بكل أشيائهن الملونة ، وأولادهن الكثر، تقف الحجة ، تمسك العروس من يدها ، تصرخ بأعلى الصوت
"يا أسمر اللون أهلي عيروني فيك
وكلما عيروني زاد عشقي ليك
أنّت الحبق بالطبق وأنّا الندي بسقيك
وانت قريص العسل كل الحلاوة فيك"
اشتقت لهم بكثرتهم التي ملأت القبور والساحات، بعد أنّ صارت البيوت فارغة كعمرنا حين عشنا حربا ليست لنا، لكنَّها مقيمة كانت بيننا.
- كم الوقت؟
تسألني كأنّها بعمري، ما يهمكِ في الوقت وأنتِ الريح الدافئة واللهو الذي لا ينقطع، كم الوقت يا صغيرتي!! لا أدري، ربما كان اليوم محض وهم أعيشه، كعقرب الساعة الذي يميل بلا توقف، فاسحاً المجال أمام عمر آخر، كي ينقضي، مع الوقت تصبح العيون مجرد نوافذ على عالم مقيت، مترهل كوجه عجوزٍ يجلس بجانب فتاة لا يعرفها، وزمن لا يعرف كيف وصل إليه.
- أين عائلتك؟
لأول مرة أبكي كصغير يواسيه كبير بعمره، ووجه محبب، لا أعرف أين هم، كنا قبل العشرين سبعة وأب وأم، في الخامس والعشرين من عمري، أصبحت كلهم بجسد واحد، ولا أب، يصبح المرء يتيماً حين تمتلكه الغربة، وتصبح يداه مجرد مجذاف بعرض بحر، يهرب من غرق، لا عائلة لي، ولا أولاد، لم أشأ صناعة كائن بتعقيدات هي دموعي عند كل غصة، كان ولدي الوحيد مجرد صديق من وهم رسمته على دفتر حسابات كلها ديوني وما علي من دموع لأسقي شتلة عمري، النصبة التي تحولت لعدم كوجه ولدي في الدفتر.
اقتربنا من المغيب، الكرسي المطل على البحر الذي أوشك على ابتلاع الشمس، أصبح أكثر برودة، أحسُ بالرحيل دائماً أشعرُ به كأنّني كلب يتحسس الخطر، صديقتي تنظر الى ارتجافي، لم تعد تبتسم، تحللت ضحكتها بعد أول دمعٍ رأته من خرفٍ عمره محرقة وفقد، الرحيل يداهمنا، تفاصيل وجهها ستختفي بعد قليل، ستتركني معلقاً بين قمر يحاول قتل شمس، وبحر يستعد لابتلاع الضحية، ستتركني وحيداً كرسمة في دفترها، لجدٍ لم تعرفه، لكنها رسمت له تجاعيداً وقصة عمرٍ كاملة، تماماً، لكي لا يبتلع وجهها مكياج في عرس ريفي، اعتادت العجائز قتل غصتهن بنحيب يسمى "عداوية عرايسي"، لصغيرات في صمدة وحناء لم يكنّ يوماً مكانهن.
.........
"عداويات العرايسي": مواويل تقال في عرس النساء في الأرياف
- مم تخاف يا جدي؟
أربكتني طيبتها، أكثر من خوفي، الإجابة لا تعني شيئاً لها، صارت أموري التي أحب والتي أكره بعيدة كحرب، لم أعرف من أين أبدأ، لكنها حين ضحكت، رقص المهرج في داخلي، ولم أرقص.
قلت كما تذكرت أنّ أقول لأي شخص قبل فراق، أخاف من فقد الذاكرة، والموت وحيداً كما حييت، أخاف من افتقادي لقهقهة العابرين على شكلي والنحول الذي رافقني منذ كنت شاباً .
كم كنت بعيداً عن كل هذا، انعزلت عن الحياة في بداية الأربعين، أنهيت روايتين، ولم أنشرهما، حاولت شعراً ولم أرتو، رسمت وجه أمي أكثر من ألف مرة، مرةً كان لوحة رمل ابتلعها البحر، ومرةً كان لوحة من ألوان مائية غسلها المطر، ومرةً كان من فحم أحرقته الحرب وغربتي.
الطفلة تبتسم كأنّ الأمر سهل، تماماً كما كانت أعراسنا تتسم بضحكة كل الأعمار، قلت بأنّني اشتقت لصوت الحجة تعد على الموليا، واشتقت لطقس الصمدة والحناء و"عداويات العرايسي"، كان العرس يعني أنّ نفرغ البيت، تأتي النساء بكل أشيائهن الملونة ، وأولادهن الكثر، تقف الحجة ، تمسك العروس من يدها ، تصرخ بأعلى الصوت
"يا أسمر اللون أهلي عيروني فيك
وكلما عيروني زاد عشقي ليك
أنّت الحبق بالطبق وأنّا الندي بسقيك
وانت قريص العسل كل الحلاوة فيك"
اشتقت لهم بكثرتهم التي ملأت القبور والساحات، بعد أنّ صارت البيوت فارغة كعمرنا حين عشنا حربا ليست لنا، لكنَّها مقيمة كانت بيننا.
- كم الوقت؟
تسألني كأنّها بعمري، ما يهمكِ في الوقت وأنتِ الريح الدافئة واللهو الذي لا ينقطع، كم الوقت يا صغيرتي!! لا أدري، ربما كان اليوم محض وهم أعيشه، كعقرب الساعة الذي يميل بلا توقف، فاسحاً المجال أمام عمر آخر، كي ينقضي، مع الوقت تصبح العيون مجرد نوافذ على عالم مقيت، مترهل كوجه عجوزٍ يجلس بجانب فتاة لا يعرفها، وزمن لا يعرف كيف وصل إليه.
- أين عائلتك؟
لأول مرة أبكي كصغير يواسيه كبير بعمره، ووجه محبب، لا أعرف أين هم، كنا قبل العشرين سبعة وأب وأم، في الخامس والعشرين من عمري، أصبحت كلهم بجسد واحد، ولا أب، يصبح المرء يتيماً حين تمتلكه الغربة، وتصبح يداه مجرد مجذاف بعرض بحر، يهرب من غرق، لا عائلة لي، ولا أولاد، لم أشأ صناعة كائن بتعقيدات هي دموعي عند كل غصة، كان ولدي الوحيد مجرد صديق من وهم رسمته على دفتر حسابات كلها ديوني وما علي من دموع لأسقي شتلة عمري، النصبة التي تحولت لعدم كوجه ولدي في الدفتر.
اقتربنا من المغيب، الكرسي المطل على البحر الذي أوشك على ابتلاع الشمس، أصبح أكثر برودة، أحسُ بالرحيل دائماً أشعرُ به كأنّني كلب يتحسس الخطر، صديقتي تنظر الى ارتجافي، لم تعد تبتسم، تحللت ضحكتها بعد أول دمعٍ رأته من خرفٍ عمره محرقة وفقد، الرحيل يداهمنا، تفاصيل وجهها ستختفي بعد قليل، ستتركني معلقاً بين قمر يحاول قتل شمس، وبحر يستعد لابتلاع الضحية، ستتركني وحيداً كرسمة في دفترها، لجدٍ لم تعرفه، لكنها رسمت له تجاعيداً وقصة عمرٍ كاملة، تماماً، لكي لا يبتلع وجهها مكياج في عرس ريفي، اعتادت العجائز قتل غصتهن بنحيب يسمى "عداوية عرايسي"، لصغيرات في صمدة وحناء لم يكنّ يوماً مكانهن.
.........
"عداويات العرايسي": مواويل تقال في عرس النساء في الأرياف