ليلى أحمد (1940 ــ) كاتبة مصرية/ أميركية وباحثة أكاديمية نسوية مسلمة. وهي إلى اليوم، وفي الغرب خاصة، معروفة من خلال أعمالها الأكاديمية الرائدة، ومن خلال أبحاثها وإسهامها في كتب جماعية، حول الإسلام والجندر وحول نظرة الإسلام للمرأة ووضع هذه الأخيرة التاريخي والاجتماعي في الشرق الأوسط (تبعاً للمصطلح الذي تعتمده). وهذا في الوقت الذي لا تزال فيه أعمالها، في العالم العربي، غير مترجمة ولا حتى معرَّف بها وبما يضمن لها حضورها ولو في الدراسات التصنيفية والإحصائية. ولذلك يهمّنا، في هذا المقال، وبطريقة أوّلية، استخلاص أهم أفكار "مشروعها الأكاديمي والفكري".
خبرت ليلى أحمد، وبامتلاء، مصر الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، وبخاصّة من ناحية المجتمع التقليدي ونهاية الاستعمار البريطاني وبداية المد القومي العربي. وحصل ذلك قبل ذهابها إلى إنجلترا حيث ستحصل على شهادة الدكتوراه في جامعة كامبريدج خلال الستينيات، ولترحل بعدها إلى أميركا حيث ستستقّر هناك من أجل العيش والتدريس والتفرغ لتحليل قضايا المرأة المصرية والشرق أوسطية والمسلمة بصفة عامة. وهي، إلى اليوم، وبدءاً من عام 1999، تحظى بدرجة الأستاذية (الرفيعة) ضمن "فرع دراسات المرأة والدين" في كلية اللاهوت في جامعة هارفارد الأميركية. وقد عرضت لهذا "العبور" (A Border Passage)، كما سمته، من القاهرة إلى أميركا، في مذكّراتها التي عنونتها بـ"عبور الحدود ــ من القاهرة إلى أميركا" (1999).
وتحكي، في هذه المذكرات، عن نشوئها وسط "تعدّدية ثقافية" بالقاهرة وعن حياتها كمراهقة في أوروبا وبعدها في الولايات المتحدة الأميركية. وتروي كيف أنها تعرّفت إلى الإسلام من خلال أحاديث جدّتها وأمّها أثناء طفولتها، وعلى النحو الذي جعلها ــ وقتذاك ــ تميّز ما بين "إسلام معيش" كما ترويه وتعيشه الجدّة والأم وما بين "إسلام" من نوع آخر "رسمي" كما تمارسه الدولة ذاتها وكما تبشّر به نخبة ذكورية عريضة. وسيكون لأحاديث الجدّة سالفة الذكر تأثير على فهم ليلى أحمد للإسلام وعلى مسارها الأكاديمي معاً. وهذا الموضوع سيكون في أساس الكتاب المشهود لها به، في مجال التاريخ الإسلامي والحركة النسوية الإسلامية والدور التاريخي للمرأة في الإسلام. والمقصود، هنا، كتابها الموسوم بـ"المرأة والجندر في الإسلام" (1992).
فالنسوية العربية، في اعتقادها، على قدر عالٍ من التعقيد والحساسية، ولذلك فهي لم تخف خيبتها من "الافتراضات المسبقة" التي استندت النسوية الغربية إليها في التعاطي للعالم العربي ككل وضمنه موضوع المرأة. ومن هذه الناحية تشرح أن الغرب، وعلى النحو الذي يشرك أميركا، يعلم الاضطهاد والقمع والتخلف والجهل، والذي تعاني منه المرأة المسلمة في العالم العربي، لكن دون أن يجرؤ على المسّ بصورة المرأة في الغرب التي لا تخلو بدورها من تنقيص وتحقير، نتيجة الثقافة الغربية ذاتها. و"إذا نظرنا إلى أبعد ما يكون في أفق التاريخ، لا نرى سوى الهيمنة الذكورية" كما تقول المؤرخة الفرنسية ميشيل بيرو (Michelle Perrot) صاحبة الأبحاث الرصينة حول تاريخ النساء في الغرب.
فالصور النميطة للمرأة، في الغرب والشرق معاً، مكرورة ومتبادلة، لكن الغرب حريص على التركيز على المرأة المسلمة، بمفردها، وإلى الحد الذي يجعل منها، وتحت تأثير التمركز الثقافي والعرقي وحتى العنصري، "امرأة بدائية". وسيكون هذا التمركّز عنوان مقال مبكّر ستنشره ليلى أحمد في مجلة "الدراسات النسائية" (Feminist Studies) (المجلد 8، العدد: 3، خريف 1982). وكانت ليلى أحمد، بدورها، ومن قبل، قد عانت من العنصرية ومن القوالب التنميطية للإسلام والمسلمين في بريطانيا أثناء التحصيل الدراسي: أي في الفترة التي لم يكن يذكر فيها شيء عن "الأصوليات العمياء" و"الإرهاب الدموي" و"اللقاء الصادم" بين الإسلام والغرب... وغيره. وقد حصل للطالبة ما حصل لها من قبل الأساتذة ابتداءً ومن قبل أقرانها أيضاً. ومصدر "التصادم"، هنا، هو "الخطاب" المتولِّد من فهم نصوص محدّدة من قبل هؤلاء وفي سياقات "استشراقية عملية" محدّدة. وكل ذلك سيكون له تأثير، جلي، ولاحق، على مستوى تركيزها على هذا الخطاب... لكن من منظور مقارباتي توصيفي يتلافى "الإجابات المواقفية والحدّية".
اقــرأ أيضاً
والجمهور، من غير المسلمين، في الغرب، يركّز، وبشكل مبالغ فيه، على مواضيع محدّدة في مقدّمها تعدّد الزوجات والحجاب وختان الإناث. وتظل معرفة هذا الجمهور بالإسلام، من خارج هذه المواضيع المكرورة، ضئيلة جدّاً. وهذه الرؤية الإشكالية هي ما حرصت ليلى أحمد على محاولة تغييرها.
وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى كتابها الشهير "ثورة هادئة، انبعاث الحجاب، من الشرق الأوسط إلى أميركا" (2012). فمن الجلي أن الحجاب لم يعد مسألة تخصّ الشرق بمفرده، وإنما امتدّ إلى داخل الغرب ممثلاً في أميركا التي تسعى إلى أن تراقب العالم من خلال ثقب إبرة كما يقال. والرهان، في التعاطي مع موضوع في حجم الحجاب، لا يمكنه أن يقوم إلا في إطار من مقاربة من خارج نيران "العداء" وماكينات "التجييش".
وكان من المفهوم أن يفرض الحجاب ذاته، في الغرب (الرأسمالي) ككل، نتيجة أفواج من المهاجرين ونتيجة أجيال لاحقة من أبناء هؤلاء المهاجرين من الذين نشأوا في الغرب، وكان من المفهوم أيضاً ألا يخلو التعاطي (المعياري) للحجاب من أشكال من الغموض والتوتّر، وبخاصة في ظل تزايد التصادم في العلاقة بين الغرب والشرق. فالحجاب لا يجعل من الإسلام رمزاً وثقافة وهوية فقط، وإنما يجعل منه ذاتًا وواقعًا في الفضاء العام أيضًا. ومن ثم منشأ التخوّف منه الذي يبلغ حد "الرُهاب" أو "الخوف المرضي" من الإسلام ككل (Islamophobie). وكانت البداية من البلدان الأوروبية التي تفاوتت في التعامل مع الحجاب بحسب تفاوت القوانين والثقافة السائدة وسياسات الهوية، في كل بلد أوروبي على حدة.
ومع أن الكتاب يعنى بـ"انبعاث الحجاب"، كثورة عميقة وهادئة تحدث وسط المسلمين الأميركيين، فقد تمّ التعامل معه باعتباره كتابا ثريا ومفيدا، وباعتباره كتابا منتظما في سياق ما ينعت بـ"تجسير الثقافات" (Bridging Cultures) ودعم "سياسة التعدّدية الثقافات" (Multiculturalism)، وكما نظر إليه على أنه دراسة نسوية لباحثة نسوية بارزة أدركت كيف تتعامل مع موضوع أو بالأحرى مع "لغم"، وكل ذلك بالاعتماد على منظور أكاديمي متحرّر من العداء للإمبريالية.
صحيح أن هناك بعض التحوّل في التعاطي مع النسوية الإسلامية في الغرب، كما تقرّ ليلى أحمد نفسها، ولكن مع ذلك تظل الأفكار الغالبة عن الإسلام ــ وككل ــ خاطئة... إضافة إلى أنها مصمّمة على زرع مشاعر واعتقادات غريبة جنبا إلى جنب مع إحداث تغيير في الرأي العام. وهذا ما فرض على ليلى أحمد، ومن موقع التحليل والدرس، النظر في بناء طبيعة هويتنا العربية كما تمّ تشييدها وإعادة تشييدها حتى تخدم المصالح السياسية المعاصرة.
كانت تجربة ليلى أحمد، في أوروبا والولايات المتحدة، في كثير من الأحيان، مشحونة بالتوتّر والارتباك... نتيجة ما لازم تعاطي موضوع المرأة والإسلام بعامة من خلط وتبسيط، وهذا في الوقت الذي ظلت فيه تحاول التوفيق بين هويتها الإسلامية المصرية والقيم الغربية جنبا إلى جنب مع شرح عدم تعارض هذه الهوية مع القيم الأخيرة. وكل ذلك في المدار الذي دفعها، وفي سياق مواجهة العنصرية والأفكار المسبقة والمعادية للإسلام، وفي سياق نقد الذات أيضاً، إلى تفكيك التقاليد الذكورية والعقائد المركزية لثقافة بلدها، من أجل تشخيص الخرافات الضارّة والمفاهيم الخاطئة التي يتعمّدها الغرب في صياغة تصوّراته الأيديولوجية حول الإسلام ودور المرأة المسلمة في العالم المعاصر. ومن هذه الناحية فقد انتقدت، بشدة، القومية العربية، وفي كل من مصر والشرق الأوسط. وكانت خلاصتها أن القومية، سواء في حال مصر أو البلاد العربية ككل، حملت من "التخريب" أكثر مما حملته من "البناء". وحصل ذلك من خلال ابتلاع التنوّع والإبداع الثقافيين، وما نجم عن ذلك من تداعيات ذات صلة مباشرة بسياسة الهوية وعمل الذاكرة وأشكال من الإنتاج الرمزي... وغيرها.
ولذلك لا يبدو غريباً أن تعنى الباحثة بالخطابات ذاتها باعتبارها بؤراً للاستعمال والتوظيف والاستثمار، وكل ذلك من خلال استخلاص ثوابت هذه الخطابات رغم بعض المتغيّرات التي لا ترقى إلى التأثير في هذه الثوابت الجارفة. وما كان لهذه الخطابات أن تؤدي هذه المهام إلا من خلال تأويلات مقصودة ومستثمرة من خلال مؤسّسات وعبر قنوات. ولذلك فالممارسات القمعية، على النساء، في الشرق الأوسط، هي نتيجة غلبة تأويلات ذكورية للإسلام وأنساق تمثيل داعمة لهذه التأويلات القامعة؛ ومعنى ذلك أنها ليست نتيجة "الإسلام المبدئي" نفسه. وكان من المفهوم أن تنتشر هذه التأويلات، على نطاق واسع، بحكم النسق البطريركي الذي يتحكّم في المجتمعات الإسلامية دون أن يترك مجالات تذكر للنسق الحداثي.
اقــرأ أيضاً
لقد أضفى المجتمع طابعاً مؤسسيّاً على الصوت الجندري التراتبي، وكل ذلك في المنظور المتشدّد الذي أفضى بدوره إلى طمس صوت الإنصاف والعدالة، لكي لا تفوتنا الإشارة إلى المساواة المرفوضة أساساً وعلى صعيدي الواقع والخطاب معاً، وعلى النحو الذي جعل من الإسلام ــ في الأغلب الأعم ــ خطاباً للنخبة الذكورية المهيمنة سياسياً. ولا يبدو غريباً أن يتمّ تجديد التأكيد على العادات والقوانين القديمة المتعلقة بالمرأة في المجتمعات الإسلامية الماضوية وبما يضمن استمرار المكانة ذاتها للمرأة في الحاضر. وكل ذلك ينظر إليه على أنه تفسير صحيح للإسلام قائم على النصوص والمؤسّسات المتطوّرة والموروثة من الماضي.
ولذلك فالمعركة تبدأ من النصوص، ومن المؤسسات التي تعمل على تصريف هذه النصوص وتداولها في المجتمعات الإسلامية، وكل ذلك في المدار الذي يفيد على مستوى إعادة النظر في الثقافة الذكورية وتفكيكها وتقييمها... وعلى مستوى إعادة تعريف التراث الديني والثقافي المتنوّع لمناطق الشرق الأوسط. واللافت أن ليلى أحمد تلزم بهذه المهمة النقدية، الواعية والهادئة، والمسؤولة، والشاقّة في الوقت نفسه، كلاً من الباحثات النسويات المسلمات والغربيات على حد سواء. وهذا في حد ذاته يمثّل تحديّاً معرفياً وأخلاقياً كبيراً.
(باحث وأكاديمي من المغرب)
خبرت ليلى أحمد، وبامتلاء، مصر الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، وبخاصّة من ناحية المجتمع التقليدي ونهاية الاستعمار البريطاني وبداية المد القومي العربي. وحصل ذلك قبل ذهابها إلى إنجلترا حيث ستحصل على شهادة الدكتوراه في جامعة كامبريدج خلال الستينيات، ولترحل بعدها إلى أميركا حيث ستستقّر هناك من أجل العيش والتدريس والتفرغ لتحليل قضايا المرأة المصرية والشرق أوسطية والمسلمة بصفة عامة. وهي، إلى اليوم، وبدءاً من عام 1999، تحظى بدرجة الأستاذية (الرفيعة) ضمن "فرع دراسات المرأة والدين" في كلية اللاهوت في جامعة هارفارد الأميركية. وقد عرضت لهذا "العبور" (A Border Passage)، كما سمته، من القاهرة إلى أميركا، في مذكّراتها التي عنونتها بـ"عبور الحدود ــ من القاهرة إلى أميركا" (1999).
وتحكي، في هذه المذكرات، عن نشوئها وسط "تعدّدية ثقافية" بالقاهرة وعن حياتها كمراهقة في أوروبا وبعدها في الولايات المتحدة الأميركية. وتروي كيف أنها تعرّفت إلى الإسلام من خلال أحاديث جدّتها وأمّها أثناء طفولتها، وعلى النحو الذي جعلها ــ وقتذاك ــ تميّز ما بين "إسلام معيش" كما ترويه وتعيشه الجدّة والأم وما بين "إسلام" من نوع آخر "رسمي" كما تمارسه الدولة ذاتها وكما تبشّر به نخبة ذكورية عريضة. وسيكون لأحاديث الجدّة سالفة الذكر تأثير على فهم ليلى أحمد للإسلام وعلى مسارها الأكاديمي معاً. وهذا الموضوع سيكون في أساس الكتاب المشهود لها به، في مجال التاريخ الإسلامي والحركة النسوية الإسلامية والدور التاريخي للمرأة في الإسلام. والمقصود، هنا، كتابها الموسوم بـ"المرأة والجندر في الإسلام" (1992).
فالنسوية العربية، في اعتقادها، على قدر عالٍ من التعقيد والحساسية، ولذلك فهي لم تخف خيبتها من "الافتراضات المسبقة" التي استندت النسوية الغربية إليها في التعاطي للعالم العربي ككل وضمنه موضوع المرأة. ومن هذه الناحية تشرح أن الغرب، وعلى النحو الذي يشرك أميركا، يعلم الاضطهاد والقمع والتخلف والجهل، والذي تعاني منه المرأة المسلمة في العالم العربي، لكن دون أن يجرؤ على المسّ بصورة المرأة في الغرب التي لا تخلو بدورها من تنقيص وتحقير، نتيجة الثقافة الغربية ذاتها. و"إذا نظرنا إلى أبعد ما يكون في أفق التاريخ، لا نرى سوى الهيمنة الذكورية" كما تقول المؤرخة الفرنسية ميشيل بيرو (Michelle Perrot) صاحبة الأبحاث الرصينة حول تاريخ النساء في الغرب.
فالصور النميطة للمرأة، في الغرب والشرق معاً، مكرورة ومتبادلة، لكن الغرب حريص على التركيز على المرأة المسلمة، بمفردها، وإلى الحد الذي يجعل منها، وتحت تأثير التمركز الثقافي والعرقي وحتى العنصري، "امرأة بدائية". وسيكون هذا التمركّز عنوان مقال مبكّر ستنشره ليلى أحمد في مجلة "الدراسات النسائية" (Feminist Studies) (المجلد 8، العدد: 3، خريف 1982). وكانت ليلى أحمد، بدورها، ومن قبل، قد عانت من العنصرية ومن القوالب التنميطية للإسلام والمسلمين في بريطانيا أثناء التحصيل الدراسي: أي في الفترة التي لم يكن يذكر فيها شيء عن "الأصوليات العمياء" و"الإرهاب الدموي" و"اللقاء الصادم" بين الإسلام والغرب... وغيره. وقد حصل للطالبة ما حصل لها من قبل الأساتذة ابتداءً ومن قبل أقرانها أيضاً. ومصدر "التصادم"، هنا، هو "الخطاب" المتولِّد من فهم نصوص محدّدة من قبل هؤلاء وفي سياقات "استشراقية عملية" محدّدة. وكل ذلك سيكون له تأثير، جلي، ولاحق، على مستوى تركيزها على هذا الخطاب... لكن من منظور مقارباتي توصيفي يتلافى "الإجابات المواقفية والحدّية".
والجمهور، من غير المسلمين، في الغرب، يركّز، وبشكل مبالغ فيه، على مواضيع محدّدة في مقدّمها تعدّد الزوجات والحجاب وختان الإناث. وتظل معرفة هذا الجمهور بالإسلام، من خارج هذه المواضيع المكرورة، ضئيلة جدّاً. وهذه الرؤية الإشكالية هي ما حرصت ليلى أحمد على محاولة تغييرها.
وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى كتابها الشهير "ثورة هادئة، انبعاث الحجاب، من الشرق الأوسط إلى أميركا" (2012). فمن الجلي أن الحجاب لم يعد مسألة تخصّ الشرق بمفرده، وإنما امتدّ إلى داخل الغرب ممثلاً في أميركا التي تسعى إلى أن تراقب العالم من خلال ثقب إبرة كما يقال. والرهان، في التعاطي مع موضوع في حجم الحجاب، لا يمكنه أن يقوم إلا في إطار من مقاربة من خارج نيران "العداء" وماكينات "التجييش".
وكان من المفهوم أن يفرض الحجاب ذاته، في الغرب (الرأسمالي) ككل، نتيجة أفواج من المهاجرين ونتيجة أجيال لاحقة من أبناء هؤلاء المهاجرين من الذين نشأوا في الغرب، وكان من المفهوم أيضاً ألا يخلو التعاطي (المعياري) للحجاب من أشكال من الغموض والتوتّر، وبخاصة في ظل تزايد التصادم في العلاقة بين الغرب والشرق. فالحجاب لا يجعل من الإسلام رمزاً وثقافة وهوية فقط، وإنما يجعل منه ذاتًا وواقعًا في الفضاء العام أيضًا. ومن ثم منشأ التخوّف منه الذي يبلغ حد "الرُهاب" أو "الخوف المرضي" من الإسلام ككل (Islamophobie). وكانت البداية من البلدان الأوروبية التي تفاوتت في التعامل مع الحجاب بحسب تفاوت القوانين والثقافة السائدة وسياسات الهوية، في كل بلد أوروبي على حدة.
ومع أن الكتاب يعنى بـ"انبعاث الحجاب"، كثورة عميقة وهادئة تحدث وسط المسلمين الأميركيين، فقد تمّ التعامل معه باعتباره كتابا ثريا ومفيدا، وباعتباره كتابا منتظما في سياق ما ينعت بـ"تجسير الثقافات" (Bridging Cultures) ودعم "سياسة التعدّدية الثقافات" (Multiculturalism)، وكما نظر إليه على أنه دراسة نسوية لباحثة نسوية بارزة أدركت كيف تتعامل مع موضوع أو بالأحرى مع "لغم"، وكل ذلك بالاعتماد على منظور أكاديمي متحرّر من العداء للإمبريالية.
صحيح أن هناك بعض التحوّل في التعاطي مع النسوية الإسلامية في الغرب، كما تقرّ ليلى أحمد نفسها، ولكن مع ذلك تظل الأفكار الغالبة عن الإسلام ــ وككل ــ خاطئة... إضافة إلى أنها مصمّمة على زرع مشاعر واعتقادات غريبة جنبا إلى جنب مع إحداث تغيير في الرأي العام. وهذا ما فرض على ليلى أحمد، ومن موقع التحليل والدرس، النظر في بناء طبيعة هويتنا العربية كما تمّ تشييدها وإعادة تشييدها حتى تخدم المصالح السياسية المعاصرة.
كانت تجربة ليلى أحمد، في أوروبا والولايات المتحدة، في كثير من الأحيان، مشحونة بالتوتّر والارتباك... نتيجة ما لازم تعاطي موضوع المرأة والإسلام بعامة من خلط وتبسيط، وهذا في الوقت الذي ظلت فيه تحاول التوفيق بين هويتها الإسلامية المصرية والقيم الغربية جنبا إلى جنب مع شرح عدم تعارض هذه الهوية مع القيم الأخيرة. وكل ذلك في المدار الذي دفعها، وفي سياق مواجهة العنصرية والأفكار المسبقة والمعادية للإسلام، وفي سياق نقد الذات أيضاً، إلى تفكيك التقاليد الذكورية والعقائد المركزية لثقافة بلدها، من أجل تشخيص الخرافات الضارّة والمفاهيم الخاطئة التي يتعمّدها الغرب في صياغة تصوّراته الأيديولوجية حول الإسلام ودور المرأة المسلمة في العالم المعاصر. ومن هذه الناحية فقد انتقدت، بشدة، القومية العربية، وفي كل من مصر والشرق الأوسط. وكانت خلاصتها أن القومية، سواء في حال مصر أو البلاد العربية ككل، حملت من "التخريب" أكثر مما حملته من "البناء". وحصل ذلك من خلال ابتلاع التنوّع والإبداع الثقافيين، وما نجم عن ذلك من تداعيات ذات صلة مباشرة بسياسة الهوية وعمل الذاكرة وأشكال من الإنتاج الرمزي... وغيرها.
ولذلك لا يبدو غريباً أن تعنى الباحثة بالخطابات ذاتها باعتبارها بؤراً للاستعمال والتوظيف والاستثمار، وكل ذلك من خلال استخلاص ثوابت هذه الخطابات رغم بعض المتغيّرات التي لا ترقى إلى التأثير في هذه الثوابت الجارفة. وما كان لهذه الخطابات أن تؤدي هذه المهام إلا من خلال تأويلات مقصودة ومستثمرة من خلال مؤسّسات وعبر قنوات. ولذلك فالممارسات القمعية، على النساء، في الشرق الأوسط، هي نتيجة غلبة تأويلات ذكورية للإسلام وأنساق تمثيل داعمة لهذه التأويلات القامعة؛ ومعنى ذلك أنها ليست نتيجة "الإسلام المبدئي" نفسه. وكان من المفهوم أن تنتشر هذه التأويلات، على نطاق واسع، بحكم النسق البطريركي الذي يتحكّم في المجتمعات الإسلامية دون أن يترك مجالات تذكر للنسق الحداثي.
لقد أضفى المجتمع طابعاً مؤسسيّاً على الصوت الجندري التراتبي، وكل ذلك في المنظور المتشدّد الذي أفضى بدوره إلى طمس صوت الإنصاف والعدالة، لكي لا تفوتنا الإشارة إلى المساواة المرفوضة أساساً وعلى صعيدي الواقع والخطاب معاً، وعلى النحو الذي جعل من الإسلام ــ في الأغلب الأعم ــ خطاباً للنخبة الذكورية المهيمنة سياسياً. ولا يبدو غريباً أن يتمّ تجديد التأكيد على العادات والقوانين القديمة المتعلقة بالمرأة في المجتمعات الإسلامية الماضوية وبما يضمن استمرار المكانة ذاتها للمرأة في الحاضر. وكل ذلك ينظر إليه على أنه تفسير صحيح للإسلام قائم على النصوص والمؤسّسات المتطوّرة والموروثة من الماضي.
ولذلك فالمعركة تبدأ من النصوص، ومن المؤسسات التي تعمل على تصريف هذه النصوص وتداولها في المجتمعات الإسلامية، وكل ذلك في المدار الذي يفيد على مستوى إعادة النظر في الثقافة الذكورية وتفكيكها وتقييمها... وعلى مستوى إعادة تعريف التراث الديني والثقافي المتنوّع لمناطق الشرق الأوسط. واللافت أن ليلى أحمد تلزم بهذه المهمة النقدية، الواعية والهادئة، والمسؤولة، والشاقّة في الوقت نفسه، كلاً من الباحثات النسويات المسلمات والغربيات على حد سواء. وهذا في حد ذاته يمثّل تحديّاً معرفياً وأخلاقياً كبيراً.
(باحث وأكاديمي من المغرب)