في منتصف أربعينيات القرن الماضي، حصل فتى في الرابعة عشرة من عمره على الجائزة الأولى في مسابقة للقصة على مستوى الأردن وفلسطين. أمّا المراكز الأخرى فذهبت لمشاركين دخلوا في عقدهم الرابع والخامس من العمر. وقد اعتاد هذا الفتى، الذي سيصبح في ما بعد الروائي والكاتب الأردني غالب هلسا (1932 - 1989)، على الوجود في عالم الكبار: سيدفعه تفوقه الدراسي إلى قطع كل سنتين في سنة واحدة، ليجد نفسه محاصراً بالطلبة الكبار، هو الابن الأصغر لأب عمره ثمانون عاماً وأم تقترب من الخمسين.
وليواجه عالم الكبار هذا، اشترى هلسا بثمن الجائزة بنطالاً طويلاً، وعلبة سجائر، وماكينة حلاقة ليرغم لحيته على البروز. كأن صاحب "الضحك" أراد أن يرسم حلمه، وينال الاعتراف به، على أرض الواقع، هو الذي اعتاد، في طفولته، على كتابة أحلامه وكوابيسه، فور استيقاظه منها.
هذه الأحلام والكوابيس سترافقه في جميع رواياته وقصصه. وربما تكون المصادفة التي جعلت وفاته تأتي في يوم ميلاده، في الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر، هي أحد هذه الأحلام الفانتازية التي أتقن عيشها.
في عام 2007، سيحصل هلسا على جائزة أردنية أخرى، هي جائزة الدولة التقديرية. غير أنه لن يستطيع الحضور، هذه المرة، لأن الجائزة جاءت متأخرة، إذ كان قد مضى حينها 18 عاماً على رحيله. كان هذا التكريم بمثابة اعتذار يرد الاعتبار إلى هذا المثقف الذي كان آخر عهده بعمّان منتصف الخمسينيات، ليعود إليها جثمانه في عام 1989. وربما هو اعتذار عن الغربة والمنفى ومنْع كتبه؛ ففي الوقت الذي كان اسمه معروفاً في الوطن العربي، كانت قلة تعرفه في الأردن، قبل وفاته.
وعلى أي حال، ستظل أعماله ممنوعة في الأردن، هو الذي صنّفت روايته "سلطانة" بين أفضل الروايات العربية المكتوبة في القرن الماضي، إلى أن تطبع أعماله الكاملة بشكل رسمي لدى "دار أزمنة"، لتقوم، بعدها، "رابطة الكتّاب الأردنيين"، عام 2008، بإصدار طبعة جديدة تقدم رواياته وقصصه منفصلةً.
تشكل الغربة والمنفى أبرز ملامح سيرة هذا الروائي التي تشبه طريقاً وعرة. بدأت رحلته السياسية مع "الحزب الشيوعي اللبناني"، أثناء دراسته الصحافة في "الجامعة الأميركية في بيروت". ومن هنا سيبدأ مشواره مع المضايقات والاعتقال والاصطدام بالسلطة؛ من بيروت إلى عمان التي سيُعتقل عاماً كاملاً فيها، فبغداد، ثم عمّان، فالقاهرة، التي ستطول إقامته فيها بعض الوقت، ليُرحّل بعدها إلى العراق، الذي سيُنفى منه مجدداً إلى لبنان.
هكذا، يقضي حصار بيروت على الجبهة كمراسل إذاعي يجري المقابلات مع المقاتلين ويساهم في رفع معنوياتهم. وسيخرج من بيروت مع المقاتلين الفلسطينيين لتقله الباخرة إلى عدن، ثم إثيوبيا، فبرلين، ليختتم مسيرة النفي والتغرب في دمشق التي سيقيم فيها حتى وفاته.
والمفارقة في مسيرة هلسا أنه بينما كان يتعرض للقمع والتهميش والملاحقات الأمنية، كان منشغلاً بالبحث عن وسائل لتطوير الذائقة الجمالية في الأدب العربي. ولربما جاءت ترجمته لكتاب الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار "جماليات المكان" رداً على قبح الأنظمة العربية.
لصاحب "ثلاثة وجوه لبغداد" عالم متنوع يدهش قارئه، فهو يكتب رواياته بطريقة الريبورتاج الصحافي ليشد القارئ إلى عالمه الغريب. عالم مليء بالأحلام والكوابيس، مصبوغ بروح تقترب من سوداوية كافكا، لكنها تمتلك نكهتها الخاصة.
عالمه مغرق في الجنس والخوف ومكشوف على الهواجس النفسية للإنسان. كأنه يدخل إلى أعماق النفس ويطرح أسئلتها من الداخل، كما كان يفعل دوستويفسكي. عالم يتحدى السلطة بكافة أشكالها، بعيداً عن المواعظ والإنشائية.