في مايو/أيار عام 2012 كانت أمواج "الربيع العربي" تتلاطم على تخوم الجزائر، شرقاً في تونس وجنوباً في ليبيا، لكن النظام السياسي في الجزائر اختار أن ينجز صدمة انتخابية خطيرة. وكانت نتيجة الانتخابات البرلمانية، التي جرت في تلك الفترة، صادمة وغير متوافقة تماماً مع راهن التغيرات العميقة التي شهدتها دول عربية عديدة، حين أعلن فوز حزب السلطة بأكثر من 43 في المائة من مقاعد البرلمان. وإذا كان لتلك الانتخابات سياقها السياسي المرتبط بتحولات إقليمية، فإن سياق انتخابات الرابع من مايو 2017 مغاير في بعض تفاصيله لتلك السياقات، ومرتبط بدرجة أولى برهان داخلي يتعلق بترتيبات أفق الانتخابات الرئاسية المقررة في ربيع 2019. وبخلاف طموح ورهانات الأحزاب السياسية على الانتخابات البرلمانية التي تجرى اليوم، لا يبدو أن السلطة نفسها تراهن عليها. فحسابات هذه الأخيرة متجهة صوب ترتيب البيت الداخلي، قبل موعد التحول الأكثر حساسية في البلاد، واختيار الوريث الرئاسي لبوتفليقة. وفيما تتنافس الأحزاب السياسية مع بعضها بعضاً على مقاعد البرلمان، تنافس السلطة الزمن لضمان أفضل الظروف التي تتيح بدء مرحلة انتقالية جديدة، وانتقال السلطة إلى ما بعد بوتفليقة، في وضع سياسي هادئ، بعيداً عن التوترات المحتملة، خصوصاً في ظل أزمة اقتصادية وإحباطات اجتماعية وواقع داخلي متوتر.
ويعتقد المحلل السياسي، حسن خلاص، أن "التسهيلات الكبيرة التي وفرتها السلطة، على غير العادة، لأحزاب المعارضة، وطموحها لإعادة جمع أكبر قدر ممكن من الأحزاب الفاعلة، بما فيها أحزاب المعارضة والإسلاميين، في إطار مشروع حكومة وطنية، لا يستهدف سوى ترضية المعارضة واستدراجها للمساعدة على تهدئة التوترات الداخلية المحتملة، حتى إنجاز رئاسيات 2019"، لكنه يستبعد، في الوقت الحالي، على الأقل إمكانية إعادة تشكيل حلف رئاسي جديد، كما كان عليه الوضع قبل عام 2012، إذ كانت سبعة، ثم ثلاثة أحزاب سياسية، تشكل تحالفاً لدعم بوتفليقة، بسبب تباين الطموحات بين قيادات أحزاب السلطة نفسها، وبروز طموحات شخصية نحو الرئاسة، في صورة رئيس الحكومة، عبد المالك سلال، ورئيس ديوان الرئاسة، أحمد أويحيى.
في أفق رئاسيات 2019
هذه الطموحات أبانت عنها الحملة الدعائية للانتخابات، وبدأت تكرس بشكل واضح الصراع بين عصب السلطة على ترتيبات رئاسيات 2019. فأكثر من أي انتخابات برلمانية أو بلدية سابقة، يبدو التنافس هذه المرة عميقاً وحاداً بين أحزاب السلطة الأربعة. فحزب جبهة التحرير الوطني، الذي يعد بوتفليقة رئيسه الشرفي، والذي يراهن عليه محيط الرئيس كواجهة سياسية، تشعر قياداته وكوادره أنه لم يقم بحملة انتخابية تمكنه من المحافظة على منجزه في انتخابات مايو 2012، والتي فاز فيها بـ220 مقعداً من مجموع 462 مقعداً في البرلمان. وهي النتيجة التي لن يكرر الحزب إنجازها، إذ غرقت قيادة الحزب في خلافات داخلية عميقة، وتركز خطابها، خلال الحملة الانتخابية، على الدفاع عن ماضي الأشخاص أكثر من طرح برنامج ورؤية مستقبلية، بخلاف الحزب الثاني للسلطة، وهو التجمع الوطني الديمقراطي الذي يقوده أحمد أويحيى، الذي نجح إلى حد بعيد في التخلص من التبعية السياسية لمحددات برنامج بوتفليقة، وأعلن بوضوح عن طموحه وتصوراته السياسية المختلفة.
وكان لافتاً أن أويحيى بصدد تقديم نفسه كمرشح رئاسي، مستقبلاً أكثر من حزب ينافس على مقاعد البرلمان. وفي انتخابات، اليوم الخميس، تدعمت واجهة السلطة بحزب سياسي، خرج من داخل حزب "إخوان" الجزائر، مباشرة بعد إعلانهم فك ارتباطهم بالحكومة وإنهاء دعم برنامج بوتفليقة، بعد 17 سنة من مشاركتهم في الحكومة، وهو حزب تجمع أمل الجزائر، بقيادة وزير الأشغال العامة السابق، عمار غول، الذي يدخل السباق الانتخابي مستفيداً من دعم السلطة ومن كوادر تكنوقراطية كانت تتبع "إخوان" الجزائر، وذلك من أجل منافسة "الإخوان" في وعائهم الانتخابي. وتلك كانت خطة السلطة، التي نجحت أيضاً في بروز حزب جديد بقيادة وزير التجارة السابق، عمارة بن يونس، هو الحركة الشعبية الجزائرية، وتشكيله من داخل حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، لكسر هيمنة هذا الأخير على منطقة الأمازيغ.
وفي واجهة المعارضة التي تناوش السلطة في انتخابات اليوم، يدخل الإسلاميون هذه المرة المنافسة الانتخابية بشكل مغاير، بعدما نجحوا في ترميم البيت الداخلي. ونجح "إخوان" الجزائر، عبر حركة مجتمع السلم، في إنجاز الوحدة السياسية مع حزب جبهة التغيير، الذي كان انشق عن الحركة في العام 2008. وقفزت قيادة الحركة إلى مستوى مغاير من الخطاب السياسي، الذي ألغى المفاهيم والمصطلحات الدينية، واستعاض عنها ببرنامج يتضمن أولويات التنمية والقضايا الاقتصادية والاجتماعية. وشكلت ثلاثة أحزاب إسلامية أخرى، هي حركة النهضة وجبهة العدالة والتنمية وحركة البناء، تحالفاً باسم الاتحاد من أجل النهضة والتنمية والبناء، ودخلت الانتخابات بقوائم موحدة. ويطمح الإسلاميون إلى تجاوز نسبة 15 في المائة التي يحوزون عليها في البرلمان الحالي. ويقف في صف المعارضة أيضاً حزب جبهة القوى الاشتراكية، أقدم أحزاب المعارضة في الجزائر، والذي تأسس في العام 1963، وهو يتمركز بشكل لافت في منطقة الأمازيغ، ويتنافس هناك مع حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية المعارض، بالإضافة إلى حزب العمال الذي تقوده مرشحة الرئاسة السابقة، لويزة حنون، والذي ما زال يحمل أفكار اليسار في الجزائر. وتبدو قوى المعارضة هذه المرة الأكثر تحفزاً لتحقيق منجز سياسي في الانتخابات، ليس بالضرورة الفوز بها، لكنها تطمح على الأقل إلى كسر انفراد حزب السلطة الأول، جبهة التحرير الوطني، ورديفه، التجمع الوطني الديمقراطي، بالغالبية، وتقليص الفارق في النتائج مقارنة مع انتخابات 2012، التي جمع الحزبان فيها 290 مقعداً من مجموع 462 مقعداً في البرلمان.
الاستخبارات خارج اللعبة
لكن المنافسة السياسية بين أحزاب السلطة، المدعومة من الإدارة، وأحزاب المعارضة التي تراهن على وعائها الشعبي، لم تتركز بشكل كبير على البرامج الانتخابية. أربعة أحزاب سياسية فقط، هي حركة مجتمع السلم والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية من المعارضة، والتجمع الوطني الديمقراطي وتجمع أمل الجزائر من الموالاة، من مجموع 43 حزباً قدموا قوائم انتخابية، طرحت برامج انتخابية متكاملة وتصورات مدروسة لمشكلات التنمية. عدا ذلك تركز الخطاب الانتخابي على القضايا السياسية الكبرى والإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية للحكومات المتعاقبة والعودة إلى فزاعة مرحلة الدم والربيع العربي، كحزب جبهة التحرير الوطني الذي يحوز على الغالبية في الحكومة والبرلمان المنتهية ولايته، والذي لم يطبع حتى برنامجاً له وظل يستند إلى برنامج بوتفليقة. ولم يلحظ الناخبون تحولاً فعلياً في النقاش السياسي باتجاه التركيز على برامج تتضمن حلولاً لكبرى مشكلات التنمية والاقتصاد في الجزائر.
وبرأي الباحث في علم الاجتماع السياسي، ناصر جابي، فإن غياب البرامج عن خطاب الحملة الانتخابية لغالبية الأحزاب السياسية "له علاقة بتصورات الأحزاب وكوادرها للبرلمان كمصعد اجتماعي، ومنصب لتحسين ظروف اجتماعية للنائب ومحيطه، وعدم تطور المؤسسة الحزبية والناخب في الجزائر باتجاه التركيز على البرامج وليس على الولاءات السياسية أو الاجتماعية في الانتخابات". واللافت أن انتخابات اليوم تتم، للمرة الأولى، في ظل معطيين جديدين، يتعلق الأول بتنحي جهاز الاستخبارات عن أداء أي دور في الاستحقاق الانتخابي، إذ كان لهذا الجهاز بالغ التأثير في رسم الاستحقاقات الانتخابية ونتائجها، بعدما نجح بوتفليقة في إقالة قائد الجهاز، الفريق محمد مدين، وتفكيك المؤسسة الاستخباراتية إلى ثلاثة أجهزة، وإلغاء عدد من هيئاتها التي كانت تتدخل عبرها في المشهد السياسي والإعلامي. ويتعلق المعطى الثاني بوجود هيئة دستورية لمراقبة الانتخابات، مشكلة من 401 شخص، نصفهم من القضاة ونصفهم من الإطارات المدنية المستقلة، إضافة إلى جملة من التدابير الجديدة، كتمكين الأحزاب السياسية من قائمة الهيئة الناخبة، ومراقبي الأحزاب من متابعة العملية الانتخابية من بدايتها إلى نهايتها وتسليمهم محاضر الفرز، والتزام بوتفليقة بضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها.
غير أن أحزاب المعارضة وقطاع واسع من الناشطين المدنيين والمراقبين، ما زالوا يشككون بإمكانية أن تسلم سادس انتخابات برلمانية تعددية في الجزائر من ممارسات مشينة، أو تزوير للنتائج. ويعتقد الناشط السياسي المستقل، عبد الوكيل بلام أن "وعود السلطة بشفافية الانتخابات هي نفسها الوعود التي أطلقتها في الاستحقاقات السابقة، ومع ذلك حدث تزوير في السابق، بالإضافة إلى أن الماكينة الإدارية المشرفة على انتخابات الرابع من مايو هي نفسها الماكينة التي أشرفت وزورت الانتخابات السابقة". ويلفت إلى أنه "ما لم ترفع الإدارة يدها عن تنظيم الانتخابات، وتسند ذلك إلى هيئة دستورية مستقلة، فإنه من الصعب القول بشفافية الانتخابات"، وهي نفس المخاوف التي أبانت عنها الأحزاب السياسية المعارضة خلال الحملة الانتخابية، إضافة إلى بعض التجاوزات التي حدثت في عدد من مكاتب الاقتراع الخاصة بالجالية في الخارج والبدو الرحل، الذين صوتوا قبل موعد الاقتراع بأسبوع.
برلمان بلا صلاحيات
وينظر الكثير من المراقبين إلى الانتخابات البرلمانية على أساس أنها محطة سياسية، تنجز من خلالها السلطة استحقاقاً دستورياً ليس إلا. وتعكس هذه الرؤية صورة البرلمان في الجزائر كمؤسسة منزوعة الصلاحية والخاضعة للهيمنة الكلية للسلطة التنفيذية. ففيما يوكل الدستور صلاحية سن وصياغة القوانين للبرلمان، تقوم الحكومة بفعل ذلك، وتحيل القوانين إلى البرلمان كسيرورة دستورية، والذي يتولى المصادقة عليها من دون مراجعتها، أو مع إدخال تعديلات طفيفة لا تمس بجوهرها. إذ صادق البرلمان، المنتهية ولايته في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 على قانون الموازنة لعام 2017، بأخطاء فنية ومالية فادحة، انكشفت لاحقاً للرأي العام وتعهدت الحكومة بإصلاحها. كما صادق البرلمان في العام 2005 على قانون المحروقات الذي يمنح حق الامتياز للشركات الأجنبية في حقول النفط، وقدم مبررات لذلك، قبل أن يناقض هذا الموقف، ويقوم بعد ذلك بتعديل نفس القانون بمبررات معاكسة لما سبق. وزاد ضعف وترهل البرلمان، المنتخب في مايو 2012، من ازدراء الرأي العام لمجلس النواب. فعلى امتداد ولاية تشريعية تمتد لخمس سنوات، لم يصدر البرلمان قانوناً واحداً من صياغته الذاتية، ما يجعل المؤسسة البرلمانية مجرد ملحق للحكومة والمؤسسة الرئاسية، خصوصاً في ظل نظام رئاسي، تعود فيه جملة من الصلاحيات، بما فيها صلاحية التشريع بالأوامر الرئاسية خلال العطلة الخريفية أو الربيعية للبرلمان، إلى رئيس الجمهورية.
ويعتقد رئيس قسم الشؤون السياسية في صحيفة "الخبر" الجزائرية، محمد شراق، أن "طبيعة النظام السياسي الرئاسي في الجزائر، لا تتيح للبرلمان لعب دور فعلي في صناعة القرار والخيارات الكبرى للدولة من جهة، ولا تتيح للأحزاب السياسية تطبيق برامجها في حال شاركت في الحكومة، إذ تكون ملزمة بتطبيق برنامج الرئيس، وهذا يخلق نوعاً من اللبس في طبيعة العلاقة بين الرئاسة والبرلمان". ويضيف إن "البرلمان لا يستطيع أداء أي دور رقابي على الحكومة في الكثير من القضايا والأحداث التي كان يمكن أن تكون محل لجنة تحقيق برلمانية. وكانت كتل أحزاب السلطة نفسها تحبط كل محاولة من كتل المعارضة لتشكيل لجان تحقيق في أحداث غرداية أو قضايا الفساد الكبرى أو غيرها". ويعتبر أن هذا الوضع هو الذي لا يعطي للانتخابات البرلمانية أهميتها في الجزائر مقارنة مع الاستحقاق الرئاسي أو حتى مع الانتخابات البلدية "بدليل أنه خلال مجمل الانتخابات البرلمانية السابقة، لم يكن رئيس الحكومة يعين من الحزب الفائز في الانتخابات". وفي هذا السياق تضمن الدستور الجزائري الجديد، المصادق عليه في السادس من فبراير/شباط 2016، إشارة إلى إمكانية إجراء رئيس الجمهورية مشاورات مع الحزب الفائز بالانتخابات لتعيين رئيس الحكومة، لكنه لم يشر إلى إلزامية أن يكون رئيس الحكومة من الحزب الحاكم.
ولا يراهن الجزائريون على الانتخابات البرلمانية لتحقيق تحول سياسي عميق في منظومة الحكم وإدارة شؤون البلاد، أو التأسيس لمشهد ديمقراطي، يعيد التوازن السياسي المفقود، ويقطع مع الزبائنية السياسية وسياسات شراء السلم المدني التي كرستها السلطة في عهد بوتفليقة. وبخلاف ذلك يعتقد كثر أن هذه الانتخابات ستكرس هيمنة ضلع جديد دخل إلى دائرة صناعة القرار، وهو الكارتل المالي، إذ نجح عدد كبير من رجال المال والأعمال في الفوز بصدارة قوائم كبرى الأحزاب السياسية، خصوصاً أحزاب السلطة، برغم ما ينطوي ذلك على مخاطر حقيقية على السلم وعلى التداخل بين النفوذ المالي والسياسي، برغم تحفز عدد كبير من القوى السياسية والمدنية لظاهرة تمدد المال السياسي في الجزائر لمناسبة الانتخابات البرلمانية الحالية ودقها لناقوس الخطر. وظهر غد الجمعة، سيكون الجزائريون على موعد مع إعلان الحكومة لنتائج سادس انتخابات برلمانية. ويتوقع مراقبون إمكانية إعادة إنتاج برلمان 1997، الذي ظهرت فيه النتائج متقاربة بين أحزاب السلطة والمعارضة. وبرغم ما شاب تلك الانتخابات من تزوير فاضح، فإن البرلمان، الذي أفرزته تلك الانتخابات، التي شهدت نفس مناخ الصراع السياسي الحالي بين حزبي السلطة، جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، كان الأكثر حيوية بالنسبة إلى المعارضة، مقارنة مع برلمانات 2002 و2007 و2012. وفي ظروف متوترة مشابهة - مع اختلاف طبيعة التوتر - للتي تعيشها الجزائر، تبدو السلطة بصدد توفير ظروف ولادة برلمان مشابه لبرلمان عام 1997.