انكفاء الشباب السوري عن دروب السياسة

16 ابريل 2015
آثار التعذيب في أحد مقارّ الأمن السوري (Getty)
+ الخط -

خلال الأشهر الأولى للثورة السورية، برزت ظاهرة يتيمة وملفتة، إذ تشكلت العديد من التيارات السياسية على يد شباب سوريين، جمع بعضها بين العمل المدني السلمي على الأرض والرؤية السياسية، التي تعتبر جنيناً كان يمكن أن يتطوّر باتجاه أحزاب سياسية لو أتيح لهذه التجارب أن تتطوّر وتمأسس نفسها.

اليوم يغيب الشباب كلياً عن ساحة السياسة لصالح العمل المدني، الأمر الذي يدفعنا لطرح سؤال عن أسباب الحضور في البدايات والغياب في النهايات، وكيفية العمل على تجاوز الأمر من سلبية التعاطي مع السياسة إلى الانخراط البناء فيها.

مذ قتل النظام السوري الحياة السياسية في سورية عام 1970 بموافقة أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، التي وافقت على عدم العمل في الجامعات والمدارس والأحزاب، ليكون النفي والسجن نصيب من رفض، أصبحت سورية "مملكة صمت" مفقرة من السياسة التي تحوّلت إلى "الممنوع المرغوب"، الأمر الذي جعل منها "المرأة المشتهاة" بعد اندلاع الانتفاضة، فاندفع السوريون لممارستها كتعويض عن غياب طويل، وكردّ فعل على نظام حرمهم منها. وقد استمر الأمر خلال الأشهر الثلاثة الأولى حين لم تكن المعارضة التقليدية قد أعلنت تأييدها للثورة ومأسست نفسها، إذ انطلقت العديد من التيارات والتجمعات التي عبرت عن نفسها من خلال بعض الأفكار السياسية الجنينية، إلى أن بدأت المعارضة التقليدية بالتحرك لقطف الحراك عبر تشكيل "هيئة التنسيق الوطنية" و"المجلس الوطني السوري"، الذي انضم للائتلاف لاحقاً، حيث انخرط الشباب فيهما بكثافة، لتبدأ فاعلية الشباب السياسية بالتراجع مع تصاعد قمع النظام، الذي وصل إلى القتل، خاصة للتشكيلات التي تشكل خطرا عليه، لأنها امتلكت العمل المدني إلى جانب الرؤية السياسية الواضحة وغير المهادنة بإسقاطه في مستوى أول، وكنتيجة طبيعية لهزال أداء المعارضة سياسيا في مستوى ثان، حيث ساد نوع التخوين والتشبيح والممارسة السياسية المنحطة بين أطيافها، مما شكل ردة فعل سلبية عند الشباب تجاه السياسة، ليصب تراجعهم في خدمة السلطة في نهاية المطاف التي تخشى أكثر ما تخشى عودة السياسة إلى المجتمع.

الشباب السوري، في البداية، دخل إلى السياسة من بوابة طهرانية الثورة، التي ترفض دنس السياسة، مما شكل صدمة لهم على اعتبار أن السياسة تلّوث طهارة الثورة، فزاد ابتعادهم تدريجيا، مدفوعين بحبهم للثورة من جهة، وسعيهم لإبعاد الدنس السياسي عنهم في محاولة منهم لعدم التلوّث للحفاظ على البراءة الثورية، مما زاد الفصل بين الثوري والسياسي يوما بعد يوم، غير مدركين أن المقدس لا مكان له لا في السياسة ولا في الثورة بطبيعة الحال، لأنهما مكانا عمل، وأي عمل سيطاله القصور والنقد وعدم الكمال مهما تطهّر أصحابه.

نقطة أخرى ساهمت في ابتعاد الشباب عن السياسة، ألا وهي الحماس السريع لإسقاط النظام ثوريا بفعل التأثر بثورات مصر وتونس وليبيا واليمن، في حين أن السياسة تقوم على العمل التراكمي والواقعي، فتوّهموا أن الثورة أقصر الطرق لإسقاط النظام في حين أن السياسة أبعد الطرق، غير مدركين أن الثورة بلا سياسة لن تنتج شيئا، وأن النظام يفضل مواجهة ثورة بلا سياسة على ثورة مسيّسة، وهو ما أوصل إلى أن تختلط الثورة بالإرهاب بالحرب الأهلية الإقليمية الدولية المفتوحة.

ولكن ما العمل؟

على الشباب أن يستغل اليوم المساحات التي تتيحها الثورة، أو قد تتيحها أية تسوية مقبلة بحكم الضرورة، للعودة إلى عالم السياسة وتشكيل الأحزاب وبلورة رؤاهم في برامج عمل عملية وواضحة، على أن يتخلوا عن الطهرانية المفرطة، فميدان العمل السياسي هو ميدان الاختلاف والمعارك السياسية والنقد الذي قد يصل حدّ التخوين أحيانا (مع الأسف)، وهو أمر طبيعي في مجتمع يحبو سياسياً من جديد، إضافة إلى ضرورة التحلي بالنَّفَس الطويل والعمل على خطط بعيدة المدى تأخذ بعين الاعتبار كسب الأنصار وتنظيم الحملات والعمل في قاع المجتمع لتأمين احتياجاته ومتطلباته الصغيرة (ماء، كهرباء، تعليم، معيشة، محاربة الأمية والجهل والتسرب من المدارس..) والكبيرة (الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان..)، فالأحزاب السياسية لا تثمر دفعة واحدة، بل تحتاج إلى عقود من العمل الجاد والدؤوب، أي على الشباب أن يعملوا وفق منطق السلحفاة التي تصل إلى هدفها بعد زمن، لا وفق منطق الأرنب اللاهث وراء نصر سريع يذوب بسرعة. هذا إن حصل عليه.


(سورية)

المساهمون