12 نوفمبر 2024
باريس
مضى زمن وأنا لم أعد إلى باريس التي أمضيت فيها أكثر من نصف عمري، وكنت قد غادرتها منذ أربع سنوات، لأسباب خاصة وبشكل غير متوقع، أي من دون أخذ قرار، كما هي حالي في تنقلاتي وأسفاري أبداً، منذ اندلاع الحرب في لبنان.
عدت إليها في شهر مايو/ أيار الجاري، وكان الربيع فيها مشتعلاً على حواف الطرقات، وفي الحدائق العامة المنتشرة في كل دوائرها العشرين. والربيع من أجمل المواعيد، حين يقرر أن يزور مدينة الأنوار، حاملاً معه زرقة مضيئة، يرميها بسخاء فوق الأسطح والعمارات.
شكرت الطقس في قلبي والسائق الذي قرر أن يقطع بي قلب العاصمة كلها تقريباً، بدلاً من أن يلف بي سالكاً حزامها من الخارج، وهو الذي جاء لاصطحابي من المطار، مرسَلاً من "أكت سود"، دار النشر التي أصدرت أخيراً روايتي "لغة السر"، مترجمة إلى الفرنسية، والتي من أجل ترويجها حضرت.
فكرت، وأنا جالسة في المقعد الخلفي، أتفرج على ما يمر بي من النافذتين عن يميني ويساري، وأستعيد ذكريات يقذفها الهواء في وجهي، أننا نبني علاقات بالأمكنة، كتلك التي نقيمها مع الناس، وأن بعضها يكون خيّراً ومفرحاً يحدث في الوقت المناسب، في حين يكون بعضها الآخر سيئ الحظ، غير سعيد، أو جالباً للتعاسة. ولم أستطع أن أحسم أمري بالنسبة لباريس، ولم أعرف أين أضعها، فهي التي لجأت إليها من زلزال لبنان، وهي التي أتاحت لوحدتي أن تنمو وتينع، وإنْ كانت قد سلبتني سذاجتي ورعونتي وشيئاً من أحلامي وأوهامي ورغباتي آنذاك، وهي التي منحتني صداقات، ومعارف، وفيها انطلقت يدي الصغيرة بالكتابة، وفي لياليها المؤرقة الباردة، أحرقت قلقاً وخوفاً وكتباً وأفكاراً وندماً ومئات الأمنيات.
وفي الكتاب الصغير الذي كتبته عنها، بلغتها، وحمل عنوان "مستأجرة شارع بو دو فير"، وهو الشارع الذي سكنته نحو عشرين عاماً، قلت إن باريس قائمة على حدود لبنان، وإنه يكفيني أن ألتفت قليلاً، لأرى بيتي وأهلي الذين هناك. وقلت إني شكلت فيها مكاناً من أمكنة متفرقة حملتها معي، فقد وضعت فيها شرفتي التي في لبنان، بسبب افتقادها إلى الشرفات، وساقيتي التي من قريتي وأصواتاً تجري فيها مكركرة، ملقية تحيات الصباح والمساء، وساحة "كونتريسكارب" الأنثوية، بنافورة مياهها وشجيراتها الدانتيل الثلاث، وأرائك مزركشة، وسواها من التفاصيل التي تساعدني على احتمال غربتي، وبها صنعت مسكني.
وفي باريس التي كنت أنسحب منها، فأغيب عنها وأنا فيها، كان الوقت يذوب على مهلٍ، حتى ليبدو على وشك الانطفاء، لولا أن هاتفاً يأتي، معيداً وصل الجسور المقطّعة كالشرايين، إذ كنت أجد حرية التفلّت من الحياة أحياناً، فأغوص تحتها، عميقاً، عميقاً، حيث يتسنى لي أن أرقب رعشاتها الأولى، قبل أن تطفو على السطح، متوارية كفقاعات الصابون.
وفي المكان عينه، حيث كنت أقف عارية القدمين، متدثرة بشال صوفي كبير، لأرقب حركة الشارع ودبيب الناس إلى أشغالهم وهمومهم، فيما الصباح يتثاءب متكاسلاً، رافضاً النهوض في برد الشتاء، عدت ووقفت بعد غياب، وأنا أستعيد وجهي الذي ولّى، ووجوه أحبابٍ أخذهم الغياب، وبقوا على الرغم من ذلك جزءاً من ذاكرة تقاوم النسيان. هنا، العمر يمضي كما يفرغ كيس رمل به ثقب صغير، وهنا، الموت يأتي إلى الغرباء على أجزاء، فلا يفطنون إلا ويكونون قد ألفوا الغياب.
أين أضع باريس، أتساءل، ولا أعرف جواباً شافياً. ثم تخطر لي بيروت. أتُحتسب المدنُ التي تلدنا، ونولد فيها ضمن تلك اللقاءات السعيدة والتعيسة، أم أنها كالقدر لا نختاره، ولا يحسب لها حساب؟