برج حمّود، جزيرة معذّبي الأرض ومنفيّيها

27 فبراير 2018

مشهد في برج حمود في بيروت (عدسة رضا العبدالله)

+ الخط -
وإذ يرفع العابرُ في أحياء برج حمّود وأزقتها الضيّقة رأسَه إلى السماء، سيهاله أن يرى كلّ تلك الخطوط المتشابكة، حتى لتكاد تخفي أزرق السماء. حبالٌ وشرائط من نحاس وخطوط كاوتشوك للكهرباء والمحوّلات والإنترنت، تجاور حبال الغسيل المتدلّي فوق الطرقات، وفي الزواريب الصغيرة المتفرّعة، حيث يتمدّد بعضُ الأثاث خارجاً من البيوت المعتمة الضيقة التي لا ترتفع بأكثر من طابقين، مستقرّا على الإسفلت أمام المداخل. دواوين خشبيّة أو معدنية، أو كنبات عتيقة، وأحيانا طاولة واطئة ومروحة وتلفزيون، تحيط بها أصص معدنية، فيها شتل وشجيرات وزهور تحدّد المجال أو تواريه. هنا الشارع متاحٌ ومباحٌ للجميع، للمارّة وسكّان البيوت الأرضية التي تجاور الأسفلت، ولا تعودها الشمس، بقدر ما هو للسيارات والأطفال والفئران والنفايات والقطط الداشرة والكلاب. هذي أغراضٌ تبقى هنا، ولا تعاود الدخول إلى حيث لا مكان لها، كما هي الناس التي تجلس عليها في الأماسي والصبحيّات، تشرب القهوة، وتدخن الأراجيل، متبادلةً الأحاديث في أحوال البلاد المحترقة، وأحوال حكّامها الطغاة. وإذ يرفع العابرُ من هنا نظره إلى الشرفات الصغيرة التي لا تتجاوز المتر في بعض الأحيان، سيرى أن النافذة تحاكي النافذة في الطوابق المتقابلة، وكذا البابُ البابَ، حيث يُلغى الخاص والحميمي لصالح الاختلاط والجوار.
وفي الشوارع الضيّقة التي يسلكها العابرُ من هناك، سوف يلتقي بقدّيسين عديدين تحتل تماثيلُهم وصورُهم مزاراتٍ مكشوفة، وأخرى مقفلة، نُصبت في الزوايا وعلى النواصي، تستلقي عند أقدام تماثيلها وبين أذرعها صورُ "شهداء"، أو "عرسان السماء"، أو "فقداء الوطن" ممن قتلوا في إحدى حروبنا الكبيرة والصغيرة، خلال مشادّةٍ على موقف سيارة، بسبب كلمةٍ نابيةٍ تمسّ بشرف الأم، في حادث سير، لحظّ عاثر، أو ببساطة دونما مبرّر أو سبب أو أعذار. وسوف يلحظ العابر أن المزارات، وعلى الرغم من كثرة النازحين والأجانب، تقول له إنه لا يزال في لبنان، حيث هناك مسيحيون بقدر ما هناك مسلمون، وأنهم باتوا الأكثرية في هذي المنطقة، بعد حروب التصفية والتهجير، حتى ولو اجتاحها تسونامي العمالة الأجنبية والنازحين من سورية والعراق.
هنا، تطغى شعبية القديس شربل الذي يحتل أكثرية المزارات، والذي، من واحد إلى آخر، تختلف قامته، وإن بقيت لحيته البيضاء الكثة هي نفسها وثوبه الأسود الطويل. وهنا سوف يلتقي العابر بالسيّدة العذراء تزيّن مداخل البيوت وزوايا الأزقة وحتى الشرفات، متنوّعة في حجمها من الكبير الطاغي إلى الصغير المتواضع، وفي ألوانها التي تروح من الأبيض الناصع التام إلى الألوان بشفتيها القرمزيتين ومشلحها الأزرق بلون السماء، وذهب تاجها المرصّع بالأحجار. والسيدة العذراء دائما صبية، حتى وهي جاثيةٌ أمام المصلوب، مع أن ابنها أسلم الروح وهو في الثالثة والثلاثين، فلو حبلت به في الخامسة عشرة من عمرها، لكانت لحظة موته توشك أن تصبح في الخمسين. وخمسون ذلك الزمن لا علاقة لها بخمسين اليوم، وتجاعيد مريم التي استولوا عليها، كما استولوا على لون بشرة المسيح وشعره وجعلوه أشقر أزرق العينين، هي كل الوجع والعذاب والتمزّق، لحظة رؤية ابنها يُصلب، ثم يلفظ آخر أنفاسه.
والغريب ألا يكون المصلوب، والحال هذه، رائجا جدا في تلك الأحياء، وإن لم تخلُ تماما مزاراتُها من بعض الصلبان، من دون جسد المسيح، ومن مصلوب كبير عند تقاطع إحدى الطرق الرئيسة، وصليب هائل الحجم مربوط إلى حبال ومعلّق في الفضاء، وسط شارعٍ يفضي إلى تمثال رخام ضخم، يمثّل المذابح التي تعرّض لها الأرمن في بداية القرن العشرين. لا بدّ أنها رغبة سكّان تلك المناطق الذين يجيئون من بلدانٍ أكلتها الحروبُ، وأخرى دكّها العوزُ والحرمانُ، بجنسياتهم التي تنطق بكل اللغات واللكنات، بشيءٍ من العزاء، وحاجتهم إلى كتفٍ يلقون همومَهم عليها، أو يدٍ تأخذ بيدهم وتعدهم بمعجزاتٍ صغيرةٍ، تريح قلوبهم وتمنحهم الأمل بغدٍ أرحم، ومَن أفضلُ لذلك من قدّيسٍ محلّي يحكي لغتهم، وأمٍّ كونية يعودون إليها، وتبقى جاهزةً أبدا للمواساة.
هنا، في برج حمود، يعيش جزء من جحافل المنسيين ممّن تاه عنهم الإلهُ، ونسي حتى أنّ لهم وجودا.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"