منذ أيامٍ، بعد منتصف الليل، خطرت لي فكرة عظيمة. كنت قد تحرّرت من مشاغل اليوم، وصرت "ملك نفسي" وقبل أن أسلّمها لسلطان النوم، لمعت الفكرة في ظلام جفنيّ، تماماً كما تفعل الأفكار العظيمة. بدأت تكبر وتتبلور وتتّضح مكامن نبوغها في خيالي، فقرّرت أن أكتب في اليوم التالي "ملحمة".
في اليوم التالي، استيقظت على صراخ طفلتي، كانت سليمة لا تعاني من شيء، الا أنها ذعرت من الدماء التي نزفتها أختها من أنفها خلال الليل. وكان ذلك أحد الأيام التي تهدر في أروقة المستشفيات والدوائر الصحية. لكنّ وقت النوم أتى، ووضعت رأسي على الوسادة مجدداً، وتذكّرت أمر "الملحمة"، وبعيداً عن الإرهاق الذي لا أشكو منه البتّة، لأنه صديقي المخلص، وجدت أنّ أحداً لن يستسيغ قراءة ملحمة، أو حتى طبعها ونشرها، لذا لمعت لي فكرة عبقرية أخرى، وهي أن أحوّل الملحمة إلى رواية. غفوت مبتسمة وأنا أقنع نفسي أنّ الرواية مقروءة ومنتشرة و"دارجة" وجوائزها "حرزانة"، مع أنّه لم يكن لي طمع بأي مال، لأني أدرك جيداً أنه لا يشتري رخاء الروح.
في اليوم التالي، حين أرسلت أولادي إلى مدارسهم، وقبل أن اتّجه إلى عملي، اكتشفت أنّهم حين عودتهم، لن يجدوا ما يأكلوه، لذا طهوت على عجل، ووصلت متأخرة إلى مكتبي، فتراكم علي العمل... وحين وضعت رأسي على الوسادة ليلاً، كان الانهاك قد أذبل روايتي الرائعة، وقلّصها إلى رواية قصيرة، أو "نوفيلا"، فابتسمت للفكرة التي أنقذتني.
في اليوم التالي، لم يحدث ما يعيق الشروع في الكتابة، كان يوم عطلة، وأوّل من التزم العطلة كان "المكيّف". في حرارة تفوق الأربعين لم يكن ممكناً تجاهل هذا الأمر وترك المكيّف يستمتع بعطلته، لذا مضى اليوم ككذبة سمجة، ووجدت رأسي تستسلم للوسادة نفسها التي نخزتني بفكرة جديدة، وهي تقليص القصة الطويلة إلى أخرى قصيرة. القصة القصيرة فنّ صعب ونادر، وسيكون ملفتاً أن أضمّن فكرة الملحمة في صفحات قليلة. وقد نمت على ذلك العزم.
في اليوم التالي، كنت أقود إلى السوبر ماركت لشراء حاجيات البيت، حين رأيت قطة تتقاذفها عجلات السيارات، ورأيت كيف أسلمت أرواحها السبع، وكيف كافحت وهي تتلقى الضربات المتتالية، كانت تحاول أن تقف بين ضربة وأخرى، حتى شطرتها ضربة إلى نصفين.
لكنني، رغم اكتئابي وألمي ومواء القطط الصغيرة التي توهّمت أنّها تبحث عن أمّها المقتولة، قرّرت ألا أستسلم وأن أكتب فكرتي العظيمة، ولا أتركها تموت أمام ناظري.
بعد منتصف الليل، قمت من فراشي وأحضرت ورقة وقلماً وكتبت: "منذ أيام، بعد منتصف الليل، خطرت لي فكرة عظيمة، لا أذكر منها شيئاً الآن، وإذ تملّكني الحزن لأني فقدتها، وفقدت فرصتي في اثبات نبوغ أتوهّمه، إلا أنني كنت سعيدة لأجلها، مطمئنة إلى أنها في عالم أرحب، يتّسع لها مع أرواح القطّة السبع".