بيروت .. المدينة الساحة بوجوهها المتغيرة
قالت لي السيدة التي التقيتها بعد حرب تموز 2006 إنها لم تعد تعرف كيف تطبخ بعد أن نزحت إلى منزل في منطقة الحمراء نتيجة تدمير منزلها في الضاحية الجنوبية من بيروت. كنت وقتها أعدّ تحقيقاً صحافياً عن إعادة إعمار البلاد المنكوبة آنذاك في عديد من مدنها وأطرافها. نوع من الانكسار كان يرافق روايات النساء، وغالبيتهن لم يبق لهن سوى أشلاء منازلهن التي أصبحت دماراً. تقول لي سيدة إنها لم تجد في ركام منزلها سوى صورة قديمة لها وقميص ابنها. في نبرة هؤلاء النساء ذلٌّ يختصر معاناة فقدان سقف البيت، عندما تتحوّل كل البيوت إلى مأوى عابر. الذل نفسه في وجوه وأصوات مئات اللبنانيين الذين اختفت منازلهم في لمح البصر، وأصبحوا مشرّدين في بيروت ما بعد انفجار المرفأ.
كمٌّ كبير من الحزن على الشاشات التي تحوّلت إلى نحيب متواصل لفاجعةٍ لا يزال أهالي بيروت عاجزين عن استيعابها
عشرات الفيديوهات في الإعلام، القديم والحديث، نقلت دمار المنازل من داخلها، وهي التي طالما شكلت الجمال الوحيد المتبقي لمدينةٍ شوّهتها أشكال الفساد والتلوث. كمٌّ كبير من الحزن على الشاشات التي تحوّلت إلى نحيب متواصل لفاجعةٍ لا يزال أهالي المدينة عاجزين عن استيعابها. صادمة هذه الفيديوهات من دواخل المنازل التي لن يكون في الوسع هذه المرّة إعادة إعمارها، ليس فقط لغياب الإمكانات المالية، بل بسبب كم التعب الكبير للضحايا في القدرة على التعامل مجدّداً مع خساراتهم المتراكمة، في نقيض رواية قدرة اللبنانيين الأسطورية على الاستمرار على الرغم من المآسي. لم تعد هذه النغمة تغري أحداً، ولم يعد أحد يريد التماهي بها، أقله في الفترة المباشرة التي تلت النكبة بانتظار أن تعود وتيرة الحياة لتفرض التآلف مع الواقع. تصريحات المنكوبين لمحطات التلفزة تكرّر نفسها: أعمّر منزلي للمرة الثانية، لم أعد أقدر على أن أقوم بذلك مرّة أخرى.
مفجعة أشرطة الفيديو التي بتنا نشاهدها تكراراً، ونُصدم تكراراً لهول الفاجعة. نشاهد مجدّداً أفلاماً قديمة لبيروت الحرب الأهلية وما تلاها. نحاول استعادة أشكال المباني القديمة الجميلة والأحياء الشعبية المكتظة. بعضها دمّره جشع الاستثمار على مراحل، وكثير من المتبقي انهار في نكبة انفجار المرفأ. المخيف أن المنازل التي سقطت فجأة على رؤوس أصحابها من دون سابق إنذار أفضل تعبير لحال الدولة الساحة التي حاولت مرحلة إعادة الإعمار وسياسات التوافق على المحاصصة والفساد الإيحاء بأنها تجربة فريدة في ليبرالية العيش المشترك والقدرة على الاستمرار والنهوض المتكرّر من الركام.
غيرت بيروت جلدها مراراً، ومع موجات التغيير تعوّدنا على التأقلم مع واقعها الجديد
غيرت بيروت جلدها مراراً، ومع موجات التغيير تعوّدنا على التأقلم مع واقعها الجديد. نحنّ إلى أيام مقاهي شارع الحمراء (المودكا والويمبي..) التي شكلت معلماً رئيسياً في حياة الشارع والمدينة، بروادها وصحافييها ومثقفيها والزائرين العابرين. نروي تفاصيل لقاءاتنا هناك مع أشخاصٍ بعضهم ترك البلاد وآخرون غادروا عالمنا. انتقل الرواد المعتادون إلى المقاهي الجديدة التي باتت معلماً جديداً في الشارع بروّاده الجدد. شارع الحمراء الذي كان مركزاً لصحف ومؤسسات إعلامية قبل أن تغادره أو تقفل أبوابها كان يختصر كثيراً من حياتنا بين مكاتب العمل والمقاهي التي تحوّلت إلى منتديات ثقافية واجتماعية وبيوت الأصدقاء. الأجيال التي سبقتنا تكرّر الحنين نفسه إلى أماكن أخرى، محتها معارك الحرب، ولم يتسنّ لنا أن نزورها. يتحدّثون عن أوقاتهم هناك وزياراتهم في المناسبات والأعياد والاحتفاليات التي كانت ترافق زيارة هذه الأماكن التي تبدو في مدينةٍ أخرى. غداً أيضاً قد تختفي الأماكن التي نبتت حديثاً في جلد المدينة، لتصبح ذكرياتٍ يرويها الجيل الجديد. تغيير بعده آخر. من الصعب إحصاء التغييرات التي عاشتها المدينة، وعايشتها في السنوات الأخيرة، والتي باتت ذكرياتٍ أستعيدها في حنينٍ بات مشكلة في العلاقة مع الواقع، لكثرة ما تغيرت معالم المدينة في معايشتي لها، بتّ أشعر بأني عشت حيواتٍ عديدة، كل واحدة منها مختلفة عن الأخرى.
نوقن اليوم أن التغييرات التي عاشتها وتعيشها المدينة ليست انعكاساً طبيعياً للتغيير الذي يعيشه العالم
نوقن اليوم بأن التغييرات التي عاشتها وتعيشها المدينة ليست انعكاساً طبيعياً للتغيير الذي يعيشه العالم، بإمكاناته ومشكلاته الحديثة، وانتقال المجال العام من العالم الحقيقي إلى ذلك الافتراضي. التغييرات السريعة التي اضطرّتنا للتأقلم مع الوجوه الجديدة العديدة للمدينة انعكاس للهشاشة الرهيبة لواقعها، باعتبارها ساحة للصراعات وصندوق بريد. لن تنفع ثقافة الصمود والاستمرارية التي ضبطت لسنوات قدرتنا على التغيير الراديكالي في تأطير حياتنا ما بعد تفجير المرفأ وفجيعته. المدينة التي تلملم جراحها لم تعد للسمر والمرح، على عادتها في تجاوز المآسي السابقة. كنا نفخر سابقاً بإقبال أهالي المدينة على السهر والمرح أياماً قليلة بعد انفجارات أو معارك داخلية أو اغتيالات سياسية أو اجتياحات إسرائيل وحروبها. بعض أشكال المرح قوبلت بهجاء شديد. صورة تلك الشابة التي تلتقط لنفسها صورةً في جوار ركام الدمار في منطقة المرفأ. وصور عرس أقيم في حديقة مطعم شبه مدمّر في الأشرفية. لا نريد أن نرى في ذلك أي إشارة إلى إيجابية ما في التعاطي مع الفاجعة.
هل أدخلنا انفجار المرفأ مرحلةً من الراديكالية في التعاطي مع واقع بيروت ووجوهها المتعدّدة؟ هل أنتج وعياً جديداً يعتبر قدرتنا على التأقلم عاملاً داعماً لهشاشة المدينة بوصفها قادرة دوماً على النهوض من الركام ومقبلة على المرح، مهما كان الثمن أو الظروف؟ قليلون يقولون إنهم سيعيدون بناء ما تهدم من منازلهم، وكثيرون يقولون إنهم تعبوا من إعادة إعمار حيواتهم كل مرة. كثيرون يقولون إنهم لن يقووا على تحمّل عنف جديد في تروما جماعية أفقدت ضحاياها ما تبقى من قدرتهم على التحمّل والاستمرار في خضم أزمة اقتصادية عاتية، وشبه دولة منهارة. هل يكون الوجه الجديد لبيروت مدينةً غارقةً في التعب والحزن وشتات غارق في الحنين إلى وجوهها الآفلة؟