الكلمات المطلوبة في لحظة الخراب اللبناني مفقودة. العجز عن كتابةٍ خارج الخراب اللبناني ماثلٌ في قوّة حضورٍ، تنقضّ عليه رغبة في معاينة بعض ذاك الخراب. بيروت تختنق، ومع اختناقها، يتأكّد ـ أكثر من أي وقت ماضٍ ـ أنّ كلّ شيء مُنتهٍ. الشارع مُحطّم من دون حاجة إلى أنقاض. الأبنية معطوبة من دون حاجة إلى انهيارات. الناس مُتعَبون فالجريمة مخيفة، ومُتعِبون أيضاً لبقائهم صامتين، فالصمت أكثر أذيّة من انفجار مرفأ، وتنصّل من مسؤوليات، واتّهاماتٍ يتبادلها مسؤولون عن خراب واختناق وعطب مع آخرين، لتبرئة ذاتٍ مُتّهمة من دون حاجة إلى تنقيب وتحقيق لشدّة وضوح جُرمها في العيش اليوميّ. الجميع معطوبون، والعطب لن يُشفَى منه أحدٌ. الكذب مستمرٌّ في التفنّن بابتكاراتٍ جديدة، كافتراء وتزوير يحصلان في إدارات تنفضّ عن مسؤولياتها، وفي موتٍ يتجوّل مبتسماً هنا وهناك. افتراء وتزوير ينبثقان من كلامٍ يتفوّه به مسؤولون، في راهنٍ موبوء بنكباتٍ يُنزلونها في مدينة وأناسٍ وحياةٍ.
مُغنّية تصطنع تعاطفاً ممجوجاً أمام كاميرات مُصابة بفقدان أصول مهنة وأخلاقياتها. وزير يحمل مكنسةً لمساعدةٍ ناقصة، فيواجَه بشتائم وطرد ومُعاقبة شكلية. وزير يهتمّ بمتحفٍ وطني مُفرّغ أساساً من سيرة بلدٍ وتاريخه، فالسيرة والتاريخ يُكتبان يومياً خارج المتحف، بالقتل والإهانة والنهب وسوء الإدارة والفساد والفوضى والتسلّط والقمع والتهجير والإقصاء والإلغاء والتغييب.
انفجارٌ يحصل في مرفأ يتحوّل إلى "جمهورية موز" كالبلد برمّته، تليه إطلالات مُخادعة لمسؤولين وفنانين يريدون تبرئة ذاتٍ من جُرمٍ يُتّهمون به، وأقلّ إثباتات الجرم متمثّلٌ بتخلّيهم عن مسؤولياتهم عن بلدٍ واجتماعٍ وناسٍ. ماجدة الرومي تذرِف دمعاً في منطقة الخراب، وتقول خوفاً وقلقاً على "أبنائها" وبلدها، رافضةً التعليق على حذف جملة من أغنية لها في عيد الجيش اللبناني مطلع الشهر الجاري، بحجّة أنْ لا المكان ولا المناسبة ملائمان لتعليقٍ كهذا؛ ومتناسيةً غناءً تصدح به أمام أصحاب سلطات، يتحمّلون مسؤولية خرابٍ مزمن وموتٍ مستمرّ ونهبٍ متتالٍ؛ ومتغاضيةً عن خضوع مُذلّ أمام وليّ عهدٍ، أبرز إنجازاته الوطنية منشارٌ يُخاطب به الآخرين؛ ومتناسيةً انصرافاً لها إلى حكّام محليين، غناءً مُعلناً وتبجيلاً مبطّناً، بين حينٍ وآخر.
في النكبة اللبنانية، يُدردش رئيس البلد مع صحافيين يفقدون حدّاً أدنى من مصداقية مهنة، ومصداقية ذات، ومصداقية انتماء إلى بلدٍ منكوبٍ بمسؤوليه المتبارين بكيفية تحطيمه بعد نهبه، فلا يُجادلون ولا يواجهون ولا يُعلنون وقائع مُتداولة، ولا يتجرّأون على استدراج أحدٍ من المسؤولين إلى تلك الحقائق والوقائع. في النكبة اللبنانية، يخرج مسؤول من مخبأ ليعلن تعاطفاً مع بلدٍ يتحطّم، ومع أناسٍ يموتون، أو يُجرَحون فيُشرف بعضهم على الموت لخطورة جروحه، أو يُفقَدون فيتلكّأ مسؤولون عن مهمّة البحث عنهم، فإذا ببعض المفقودين يخرج إلى الهواء ميتاً لتلكؤٍ في البحث المحترف عنه؛ ولا يرفّ جفن لمسؤول، ولا يُحاكم متلكّئ عن مهنة وأخلاق وواجب. أما وزيرا المكنسة (وزير التربية طارق المجذوب) والمتحف الوطني (وزير الثقافة عباس مرتضى)، فتعاطفهما مع "الحدث الجلل" يُثير ضحكاً وسخرية لشدّة النفور من مشهدهما الفاقد مصداقيّته أمام كثيرين.
اللاحق لانفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020) حافلٌ ببطشٍ أعنف من الانفجار أو مُكمِّل له، لاختزاله (الانفجار واللاحق عليه معاً) بؤس بلدٍ بمن يُسبِّب له ولناسه نكبة تلو أخرى؛ وحافلٌ ببؤسٍ أسوأ من نتائج الانفجار أو مُكمِّل له، لاختصاره (الانفجار واللاحق عليه معاً) معنى خذلان شعبيّ، رغم استثنائية مواجهات فردية ورمزيّتها، والخذلان يترافق ووقاحة سلطة تعنيها صورتها لا تحسين جوهرها، والجوهر والصورة وجهٌ واحد لعفنٍ واهتراء واحتضار قاتل.
بيروت منتهية. لبنان مغيّب. الاهتمام الدولي به منبثقٌ من مصالح أكبر منه ومن نكبته. المسؤولية المحلية تزوير وافتراء وكذب. القتل ميزة أناسٍ مكبّلين بالوقاحة والعفن، وأناسٍ منذورين للصمت والخضوع. الصورة الأصدق في المشهد المعتم والثقيل كامنةٌ في خرابٍ يُذكِّر بـ"الرؤيا... الآن هنا"، فكلّ شيء آخر باطل، و"باطِلُ الأباطيل، الكلّ باطِلٌ" (سفر الجامعة، 1 ـ 2). كلّ تصرّف لمسؤول في الجماعة الحاكمة، أو لمسؤول تابع للجماعة الحاكمة، أو لمسؤول يظنّ نفسه أنّه يُمثِّل الجماعة الحاكمة أمام الناس، يقول (التصرّف) شيئاً إضافياً من بشاعة البلد وناسه. كلّ خطاب وكلّ كلام وكلّ سلوك يُفرَّغ من كلّ شيء، لأنّ كلَّ شيءٍ عفنٌ ضارب في البلد واجتماعه وسلوك أناس كثيرين فيه.
إنّها نهاية النهايات. البلد مُقيمٌ في نهاياته، البائسة واللامتناهية، منذ النهاية المزعومة لحربه الأهلية. قانون العفو العام جريمةٌ يرتكبها أسياد الحرب بحق بلدٍ وناسه، ويوافق عليها أناسٌ يخرجون من حطام الحرب إلى خراب قانون كهذا. قانون العفو العام: أتتذكّرون تاريخ صدوره؟ إنّه 26 أغسطس/ آب 1991. انفجار مرفأ بيروت حاصلٌ قبل 22 يوماً فقط على الذكرى الـ29 لإقراره وتنفيذه. أهذه صدفة أو قدر أو لعنة أو موت مؤكّد؟ أهذا تذكير بأنّ لبنان منكوبٌ منذ القدم، أو إقرارٌ إضافيّ بأنّ بيروت "كانت"، ذات يوم، "مدينة العالم" (ربيع جابر)؟ أيّ خراب هذا؟ أيّ شقاء؟ أيّ انكسار؟ أيّ ألم؟ أيّ جنون؟ أيّ عفن؟ أيّ كذب؟ أيّ خديعة؟ أيّ تزوير؟ أيّ ماض؟ أيّ راهن؟ أيّ غدٍ؟
مع انفجار مرفأ بيروت، تكشف الجماعة الحاكمة، وبعض الفنانين خدمٌ لها، عن مزيدٍ من قُبحٍ يعرفه كثيرون، لكنّ قلّة منهم تنبذه فتواجِهه. بعد الانفجار، كان على كلّ مسؤول في الجماعة الحاكمة أنْ "يقف وسط أولئك الذين أجرم بحقّهم، ويقولها بوضوحٍ وبصوتٍ عال: أنا فعلتُ ذلك، ولن أفعل ذلك مرّة أخرى أبداً"، كي يتمكّن مُصابٌ بإجرام هؤلاء أنْ "يعفو"، وأنْ يأتي عفوه عن "الإنسان الذي أذاه" فقط "حين يشعر (هذا الإنسانُ) بالأسف والندم" (مسرحية "الموت والعذراء" لأرييل دورفمان، ترجمة علي كامل، ص. 129، سلسلة "الكتاب للجميع"، رقم 148، الصادرة مع جريدة "السفير" البيروتية). أما اعتراف كهذا، إنْ يحصل، فله تتمة: التوبة، وإلا فلا نفعٌ من الاعتراف، ولا ضرورة له، ولا مطلب ينادي به، ولا أهمية تنتج عنه. وحده مايكل كورليوني (آل باتشينو) يختزل المسألة برمّتها أمام الكاردينال لامبرتو (راف فالّوني)، الذي يدعوه إلى الاعتراف بعد انتباهه إلى حجم الثقل الأخلاقيّ الذي يُكبِّل "قاتل" شقيقه: "ماذا ينفع الاعتراف إنْ لم أتُبْ"؟ ("العرّاب 3"، 1990، فرنسيس فورد كوبولا)؟
لكنْ، "على من تقرأ مزاميرك يا داود"؟