تباعدوا تصحُّوا
كتبتْ طبيبةٌ مصرية في مذكِّراتها، عندما كانت تُعِدُّ رسالة الدكتوراه، في لندن، أنها قرّرت، مرة، زيارة جارتها البريطانية، بصحبة زوجها، وبعد أن جلست في بيت الجارة، أكثر من نصف ساعة، من دون أن تتكلّم المضيفة، أو زوجها، ثم سألتها: لماذا أتيتما لزيارتنا؟ لا وقت لدينا للزيارات. أنا أعمل، وزوجي يعمل طول الوقت.
إذا كان أهل الغرب مقلِّين في التقارب الاجتماعي، والاحتفاء بالمناسبات، فأهل الشرق يعشقون هذه وتلك، ففي هذه الأيام تسارَع تسجيل حالات الإصابة بفيروس كورونا، في الأراضي الفلسطينية، وخصوصًا في محافظة الخليل، على نحو ملحوظٍ ومقلق. وقد عزا بعضهم، في تحليلاته، ذلك إلى أن "الخلايلة" هم أهل النَّخْوة والكرَم، وأن الخليل من أكثر المدن الفلسطينية التي يشتهر أهلُها بالتقارُب الاجتماعي، والحرص على اللُّحمة العائلية والعشائرية، إضافة إلى قُربها من مناطق تماسٍّ مع النَّقَب الموبوء مُسبقًا.
يبدو أن الناس قد ضربوا بكلِّ التحذيرات عُرض الحائط، وخرجوا بعد انقضاء شهر رمضان، وبدء اعتدال الجوِّ وصفائه؛ لقضاء مناسباتهم الاجتماعية، حسب ما اعتادوا وتعوَّدوا، مثل الأعراس وحفلات الزفاف، معتقدين أن الله هو الحامي، وهو الذي يحذِّرهم بألا يُلقوا بأنفسهم إلى التهلكة، وظانِّين أن فيروس كورونا سوف ينحسر، مع ارتفاع درجة الحرارة، وذهبوا إلى أنه ربما كان هذا الفيروس مخطَّطًا سياسيًّا، أكثر من كونه وباء، ولكن النتيجة ارتفاع معدَّل الإصابات، وخصوصا في محافظة الخليل، قياسًا بباقي محافظات فلسطين، حيث صرّحت وزيرة الصحة إن الوضع في محافظة الخليل خصوصًا يشبه الوضع في الولايات المتحدة الأميركية، حيث إنهما من أكثر المناطق المنتشر فيهما وباء كورونا، في العالم حاليا.
يهتمُّ الناس في بلادنا بكلِّ صغيرة وكبيرة، تخصُّ طقوس أفراحهم، ومناسباتهم الاجتماعية، فالاكتظاظ في أسواق بيع الأغنام والخراف، مثلا، يكون ملحوظًا، فوالد العريس الذي يوشك على الاحتفال بزفاف ابنه يجوب كلّ َالأسواق الشعبية، مصطحبًا أشقَّاءه وقرابته وأبناء عمومته؛ للاستفادة من خبرتهم في انتقاء أجود أنواع الذبائح؛ لكي يتباهى بها أمامهم، ويتغنَّوْن بكرمه سنوات مقبلة، بعد أن يملأوا بطونهم. والنتيجة هي سرعة انتقال العدوى؛ بسبب هذا التزاحُم، وتبادُل التحيَّات والأحضان، في الأسواق. وعند نجاحهم في إبرام صفقات البيع المربحة، في نظرهم لصالح والد العريس، ناهيك عن طقوس الذبح والسلخ وتلوث المحيطين ومياه الصرف الصحي بالدماء والفضلات.
على الرغم من كلِّ التحذيرات والتعليمات التي تطلقها وزارة الصحة، يبدو أن ما تربَّينا ونشأنا عليه هو الغالب والمسيطر، فالشعوب العربية تحبّ ُأن تجتمع؛ من أجل لا شيء. ويبدو الاجتماع، وقت الخوف، لازمة أو متلازمة مرضية، تدلّ على العجز أكثر من دلالاتها على التكافل والتضامن مثلاً، وإن كانت العادات المتوارثة تكاد تكون ملزمة، مهما كانت ضارَّة بالشخص، وبمن حوله، مثل زيارة المريض بمرض معدٍ، فخوف المحيطين من العتب عليهم؛ لعدم زيارته يكون أكبر من خوفهم من انتقال العدوى إليهم.
لا حلَّ لهذا الوباء، كما كلّ ُالأوبئة التي مرّت عبر التاريخ، سوى بالتباعد الجسدي، وليس الاجتماعي، فهذه الكلمة تكاد منفِّرة للناس، ويبدو أنهم يعملون بالعكس؛ بسبب ما جُبلوا عليه من تقارُب، فالتباعُد الذي يجب أن يدعو إليه الجميع، وفي ظل الأوبئة التي تنتشر، كلَّ فترة، هو التباعد الجسدي، فوباء فيروس كورونا ليس الأول الذي يجتاح العالم، ولن يكون الأخير، فقد كان من أهمِّ أسباب انتشار الأنفلونزا الإسبانية الفقر والبطالة. تخيّلوا هذين العاملين اللذين لم ينتهيا من العالم، فقد كان العالم، وقت اجتياح الإنفلونزا الإسبانية، يعاني من آثار الحرب العالميَّة الأولى، ولكن التكدُّس كان أقوى الأسباب، فالثكنات العسكرية كانت بؤرًا للمرض؛ بسبب تجمُّع جنسيَّات مختلفة فيها، في أماكن ضيِّقة، وانتشرت بين العامَّة أكثر؛ بسبب قلَّة الوعي، وعدم انصياع الناس للأوامر، بضرورة التباعُد، حسبما تفيد المراجع التاريخية. وتكاد جائحة الإنفلونزا الإسبانية تكون قد غيّرت وجه العالم في القرن العشرين. وها هو فيروس كورونا سيغيِّر وجه العالم، في هذا القرن، والعلاج الوحيد المتاح حاليًّا هو التباعُد، فتباعدوا تصحِّوا.