قد يكون القرن العشرون قرن الرواية بامتياز على الصعيد الفني، فمن هنري جيمس، إلى جوزيف كونراد، إلى جيمس جويس، إلى فوكنر، قفز الشغل الروائي إلى أراض بكر، لم تكن مجرَّبةً من قبل في التاريخ الأدبي.
تلك كانت واحدة من الاندفاعات البارزة في تاريخ الفن الروائي، فتح فيها جيمس جويس طريق العمل على العديد من التجارب الروائية الجديدة، ومنها تيار الوعي كما تُرجم إلى اللغة العربية. وكتب "يوليسيس" كما ترجمها صلاح نيازي، أو "عوليس"، كما ترجمها طه محمود طه، وهي عمل تأسيسي ضخم يرقى بكاتبه إلى منصة المعلّم بجدارة.
رغم صعوبة الرواية، فقد باتت واحدة من أشهر الأعمال الأدبية، لا في القرن العشرين وحده، بل في التاريخ الأدبي العالمي أيضاً. وقد تغلغل تأثيرها الأدبي إلى الفن الروائي بطريقة خلاقة، ظهرت في أعمال وليم فوكنر الذي سار على درب مماثل، مضيفاً إلى تقنيات الرواية تجارب أخرى تجلّت في أكثر من رواية له، أهمها الصخب والعنف.
رغم صعوبة رواية مثل "الصخب والعنف"، فقد حوّلت كاتبها إلى "جين وراثي" مشترك بين العديد من الأسماء الروائية، التي استطاعت هضم منجزه الفني، أو التقني، وتمثله، في روايات نالت شهرة واسعة، وحضورا لافتا في لوائح القراء، مثل "البيت الأخضر" لفارغاس يوسا، و"خريف البطريرك" لماركيز، و"الخماسين" لغالب هلسا.
وبهذا المعنى يبدو التلاميذ، أكثر قدرة على الاستفادة من الابتكارات التي قدّمها المعلّمون والمرشدون الروائيون. بحيث لا تتم التضحية بالتقنيات الكتابية، ولا التساهل في الشروط التي تجعل النص صالحاً للقراءة.
من يقرأ ما يُكتب في الرواية، على المستوى العربي، سوف يلاحظ، أن الاهتمام بفن الكتابة، يتراجع، أو يراوح في المكان، أو أن الروائيين العرب المعاصرين، ما عادوا يهتمون بالإنجازات الفنية، فلا تظهر على الكتابة، آثار الشغل الفني الذي كان يهجس به الروائيون في العقود الماضية.
وتغلب على الرواية العربية المعاصرة روح الجائزة، كأن الروائي العربي يقوم بعملية استبدال طريفة، حلّت فيها شروط الجوائز الخفية محل شروط الحزب، أو المطالب السياسية، أو غيرها من الإملاءات التي كان النقاد، أو قادة الأحزاب يضعونها، أو يسرّبونها إلى شغل الرواية.
الطريف أننا لا نعرف شروط الجوائز، غير أن غيابها يزيد من جرعة الحذر الرقابي، ويبلبل الأداء الكتابي، وهو الوجه الآخر الذي يرغم الروائي على الالتزام بشروط غامضة موجودة بالقوة، وليست مسجلة بالفعل.
المشكلة الجديدة التي قد تعيق تقدّم هذا الفن، هي تخريب القراءة ذاتها، ففيما استطاعت الرواية في العالم الارتقاء بالفن الروائي، من صالونات التسلية، أو لحظات "قتل الفراغ" التي كانت تستعين بالرواية، إلى المشاركة الفاعلة في صنع وعي جمالي رفيع.
ها هي اليوم تنكص في العالم العربي، إلى لحظة انتظار شهر نيسان. وإذا كان الروائي العربي من قبل قد صار غواصاً يبحث عن اللؤلؤ، فإن الخوف هو أن يكون الروائي اليوم لا يريد إلا أن يسبح بمهارة في مياه لجان التحكيم.