15 يوليو/ تموز 2016، تاريخ مفصلي تجاوزت آثاره الحدود التركية ليغيّر الكثير في المنطقة وربما العالم. في تلك الليلة الصيفية من يوم الجمعة، وعند حدود الثامنة ليلاً، بدأت الأنباء تصل متقطعة ومشوشة وملتبسة من تركيا: تحرك مريب للقطعات العسكرية. إقفال جسور البوسفور في إسطنبول. تحليق لطيران حربي. الرئيس رجب طيب أردوغان "مختفٍ". أنباء لا توحي، في السياق التركي، إلا بأمر واحد: هناك محاولة انقلاب تحاول رفع عدد المرات التي انقضّ فيها العسكر على السلطة وعلى الديمقراطية من أربع إلى خمس بعد انقلابات 1960 و1977 و1980 و1997. لكن حصل ما فاجأ العالم، مع اتحاد الأتراك، لبرهة، معارضين وموالين، وأحبطوا الانقلاب في الشارع، وساندوا الجزء الأكبر من الأجهزة الأمنية ومن فرق الجيش لينتهي الانقلاب في أقل من 24 ساعة بحصيلة ضحايا بلغت 240 قتيلاً، من مدنيين وعسكريين. محاولة الانقلاب في تركيا كانت أكبر من حدث تركي، لأنها أدت، مع نتائجها، إلى تحولات تركية داخلية هائلة، في نظرة تركيا لنفسها، وفي دور الجيش وهويته العقائدية الجديدة وولاءاته، وفي التحالفات الداخلية، وفي قناعات الناس بأنه لا عودة بعد اليوم إلى حكم العسكر وأن الإنجازات الديمقراطية المتحققة على امتداد عقود، لا تزال مهددة، وفي الخشية من إرساء نظام تسلطي بحجة أن "القضاء على بذور حصول محاولة انقلابية جديدة تعلو على أي صوت"، وفي علاقات تركيا مع الخارج، وفي قوة تركيا وضعفها، وفي اقتصادها. حتى ثقافياً وسينمائياً وأدبياً، صار 15 يوليو 2016 تاريخاً تأسيسياً لجمهورية بات نظامها رئاسياً ودستورها جديداً ورئيسها صاحب صلاحيات تكاد تكون مطلقة.
وفي اجتماعها السياسي، كان طبيعياً أن تظل تركيا، حتى اليوم، جريحة، وجريحة جداً، في ظل تسجيل أعداد هائلة من الموظفين والعسكر والأكاديميين والقضاة والمثقفين والإعلاميين والسياسيين والمحامين ممن تم توقيفهم أو فصلهم من أعمالهم ومحاكمتهم بتهمة التورط في محاولة الانقلاب، وقد وصل العدد إلى ما يناهز الخمسين ألف شخص. في المحصلة، تقف تركيا، بغالبية شعبها وحكامها وساستها، سعيدة جداً، ولسان حالها يقول إن تركيا اليوم باتت أبعد ما تكون إلى احتمال تجدد حصول محاولة انقلاب جديدة. وفتحت المحاولة الانقلابية الباب لإتمام ثورة دستورية، كما أطلق عليها أردوغان، وتثبيت التغييرات الواسعة التي حصلت خلال عقد ونصف من حكم العدالة والتنمية للجمهورية التركية. طاولت التحولات جميع مفاصل الجمهورية التركية بدءاً من الدستور الناظم لبنيتها مروراً بمختلف المؤسسات وبالذات تلك العسكرية والقضائية، التي شهدت تحولات جوهرية إضافة إلى إعادة هيكلة بنية البيروقراطية التركية.
على الرغم من تركيز الحكومة على اتهام حركة الخدمة بإدارة الحركة الانقلابية، حفاظاً على الجيش بوصفه أهم مؤسسات الجمهورية، وتجنّباً لتمادي الصدام مع المؤسس الحقيقي للجمهورية، الذي ساهمت قطاعات واسعة منه بإفشال المحاولة الانقلابية، وذلك بحاجة إلى تدقيق، فقادة المحاولة الانقلابية كانوا، بحسب إجماع المراقبين الأتراك، مكونين من بعض الكماليين الغاضبين لتضاؤل دور الجيش في تحديد توجهات الجمهورية، وبعض العسكريين الانتهازيين الباحثين عن مناصب سياسية. وكذلك بدعم من الضباط الموالين لحركة الخدمة أو المدعومين من حلف شمال الأطلسي، والذين شقّ عدد منهم طريقه لتقديم اللجوء في عدد من الدول الأوروبية، وتمّت تصفية تجمعاتهم في الجيش في وقت لاحق بعد المحاولة الانقلابية.
وبدا ذلك واضحاً من خلال اعترافات أهم قادة الانقلاب التي تداولتها وسائل الإعلام التركية، سواء في التحقيقات أو في جلسات المحاكمات، وإضافة إلى استحالة كون قائد الجيش الثاني الجنرال آدم حدودي، الذي ترأس المجموعة الانقلابية، جزء من حركة الخدمة. على سبيل المثال، رفض الجنرال غوكهان شاهين سونماز أتيش، أحد ضباط القوات الخاصة والذي كان يقود المجموعة التي حاولت إلقاء القبض على الرئيس أردوغان، ليلة الانقلاب، الاتهامات الموجهة إليه بالانتماء لحركة الخدمة بشكل لاذع.
وقال سونماز أتيش خلال جلسة الاستماع للمتهمين التي جرت في ولاية مغولا، في فبراير/ شباط الماضي: "لا أؤمن بأن فتح الله غولن نبي أو مسيح، إن هذا تفكير أخرق. وخلال العملية تم اتهامي بالعلاقة مع مجموعة لم أكن بجانبها في أي وقت في حياتي، وقام بعض الأشخاص في كل من قونيا وإزمير باتهامي بأني عضو في حركة الخدمة، وأنا لا أقبل هذا الأمر على الإطلاق". وذلك بينما برر مشاركته في المحاولة الانقلابية بالقول: "أنا لا أريد هنا أن أقول رأيي السياسي، ولكن كما شارك كل من ألب أرسلان توركيش (رئيس حزب الحركة القومية والذي ألقى البيان الأول لانقلاب 1960) والجنرال كنعان إفرين، (قائد انقلاب 1980 الدموي)، شاركت في الثورة للأسباب ذاتها التي شاركا بها، بصفتنا وطنيين شاركنا لأجل دولتنا ووطننا".
بدا واضحاً بأن عدداً مهماً من الضباط كانوا من التيار الكمالي المتشدد، الذي رفض التحوّلات التي مرت بها المؤسسة العسكرية خلال حكم العدالة والتنمية، التي اضطر خلالها الجيش التركي، لقوة القيادة السياسية وشعبيتها ومن ثم أمام الإصلاحات الدستورية المتكررة التي قادتها حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة والتي دعمها الاتحاد الأوروبي والغرب عموماً، إلى التخلي على مضض عن دور الوصي التاريخي على الجمهورية الكمالية التركية، إلى دور الوسيط الذي يمتلك حق النقض على القرارات الحكومية وبالذات تلك المتعلقة بالشؤون الدفاعية والأمنية، مع الحفاظ على جميع الميزات التي يتمتع بها على مستوى المؤسسة أو الضباط.
على الرغم من ذلك، لم يكن هذا القبول نهائياً، حتى فشل المحاولة الانقلابية الذي شرعن هذا القبول إلى حدّ ما، لتتحول المؤسسة العسكرية عبر قياداتها العليا، التي رفضت المحاولة الانقلابية، في رؤيتها لذاتها وللمؤسسة العسكرية من ممثل وحيد للأمة والجمهورية إلى فكرة خادم الأمة المنصاع لإرادتها التي تنبثق من صناديق الاقتراع. الأمر الذي أطّره قبول قيادة أركان الجيش ذاتها في ظل حالة الضعف التي شابت معظم مفاصلها بعد المحاولة الانقلابية، بعدد من المراسيم التشريعية في إطار حالة الطوارئ المستمرة.
وأحدثت هذه المراسيم تحولات كبيرة في بنية مجلس الأمن القومي ومجلس الشورى العسكري (المسؤول عن الترفيعات في الجيش) ووسعت سيطرة المدنيين على الجيش، في ما تم اعتباره رابع أكبر موجة إصلاحات تعرض لها الجيش التركي في سبعة قرون منذ تأسيس السلطنة العثمانية.
شاب عملية التحول والإصلاح الجذري التي تعرض لها الجيش التركي، بما في ذلك تسريح نصف جنرالاته الكبار وجزء كبير من الطيارين، الكثير من المبالغات لناحية سيطرة الرئيس التركي على الجيش الذي لا زال على مستوى ضباطه ومؤسساته كمالياً حدّ النخاع في رؤيته لذاته وللدولة. بل يمكن القول إنه لم يبق فيه إلا الكماليين بعد تسريح الضباط الموالين لحركة الخدمة ممن نجحت الأخيرة في تسريبهم لصفوف الجيش، خلال أكثر من عقد ونصف من العمل الشاق.
ويستشهد البعض على سيطرة أردوغان على الجيش التركي ببعض مظاهر المصالحة مع الجانب الإسلامي من الهوية التركية، متناسياً أن الجمهورية العلمانية الكمالية في حد ذاتها وعلى الرغم من شراستها وتطرفها، كانت بشكل عملي جمهورية المواطن التركي المسلم السني، ولطالما هُمّش في الجيش التركي الضباط العلويون ولم يتسلم أي منهم مناصب رفيعة أو عمليات استراتيجية، وبالذات بعد الانقلاب الدموي الذي قاده الرئيس التركي السابق كنعان إفرين عام 1980، بسبب التوجه اليساري لمعظم المثقفين العلويين حينها.
تحت ضغط حكومات العدالة والتنمية أجرى الجيش التركي عدداً من الإصلاحات الشكلية البسيطة التي بدت امتداداً لتوجهات انقلابيي 1980، بالاعتماد على التيارات الصوفية لمواجهة اليسار التركي. ومن بين هذه الإصلاحات الشكلية التي لا تمس جوهر العقيدة الكمالية العلمانية، السماح للجنود بالصيام والصلاة بشكل جماعي، واعتماد شخصية الصحابي حمزة بن عبد المطلب جزءاً من التعبئة العسكرية، لعدم وجود أي علاقة لها بالمشكلة السنية الشيعية، ووضع المصاحف على صواري السفن الحربية أحياء للتراث العثماني، واستخدام بعض الشخصيات الدينية في تسمية بعض الفرق العسكرية، ولكن كل ذلك تم قبل المحاولة الانقلابية.
بطبيعة الحال لا أحد يستطيع الحصول على معرفة دقيقة بما يجري داخل المؤسسة العسكرية التركية، التي لا زالت تتبنى الأيديولوجية الكمالية الرسمية ذاتها في جميع مفاصلها، إلا أنه يمكن القول إنه من الناحية التنظيمية لم يعد الجيش التركي، بعد المحاولة الانقلابية، كما كان في سابق عهده، أي كتلة صماء متماسكة تمكنت من قيادة معظم انقلاباتها بقرارات مركزية من رئاسة الأركان، بل بات من الممكن الحديث عن عدد من التيارات المشتتة ضمن النخبة العسكرية الكمالية ذاتها.
التيار الأول ذلك الذي يوالي الغرب وحلف شمال الأطلسي ومعادٍ بشدة للرئيس التركي، لكنه عانى من تصفية كبيرة في صفوفه خلال سنوات حكم العدالة والتنمية عبر قضايا الأرغنكون والمطرقة، وكذلك بعد المحاولة الانقلابية. والثاني مهادن للرئيس التركي، ومتمثل بالنخبة الكمالية التي ترى في تركيا على المستوى الجيواستراتيجي دولة أوروآسيوية، وترى في العلاقات مع روسيا أهمية استراتيجية لمواجهة مؤامرات واشنطن وتيارات واسعة من الغرب ذاته، بدعمها وتدريبها لعدو الجمهورية الأول الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني.
كما بات من الممكن، أيضاً، الحديث عن نخبة كمالية عسكرية تحترم الرئيس التركي أردوغان، بوصفه ممثلاً "لإرادة الأمة"، ولكنها ليست إسلامية أو "أردوغانية" بكل حال من الأحوال. وإن بدا للوهلة الأولى أمر الحديث عن نخبة كمالية موالية للرئيس التركي ضرباً من اللامعقول نظراً لبنية الجيش التركي التاريخية، وكأي مؤسسة عسكرية، معروفة باحتقارها للساسة، إلا أن الرئيس التركي وخلال ما يقرب من 15 عاماً من تواجده في السلطة تمكن من اكتساب احترام تيار معتبر ضمن الجيش التركي، نظراً للنهضة الاقتصادية الشاملة التي تمكن من تحقيقها على مختلف الصعد بما في ذلك الصناعات الدفاعية.
وأيضاً لنجاحه بتحويل تركيا من دولة لم تكن قادرة على بسط سيطرتها الكاملة على أراضيها إلى دولة تمتلك قواعد عسكرية في الخليج والصومال وشمال العراق وسورية والبلقان، إضافة إلى القواعد في قبرص، ولسياسته التي لطالما حرصت على عدم ضرب الجيش والتقليل من احترامه بل على ترويضه وتدعيمه. وكذلك بعد أدائه الشجاع خلال المحاولة الانقلابية ورفضه الفرار وإصراره على المقاومة، ما أخرجه من تابو "السياسيين الجبناء والفاسدين" ووضعه في صفوف القادة التاريخيين، حيث يبدو، على سبيل المثال، أن الجنرال زكائي أك سكاللي، قائد القوات الخاصة والمشرف على عملية درع الفرات، من بين هذه النخبة، وهو الذي أدى دوراً كبيراً في إفشال المحاولة الانقلابية، بعد أن أعطى أوامره لصف الضابط عمر خالص دمير بقتل الجنرال سميح ترزي، أثناء محاولة الأخير السيطرة على قيادة الأركان في العاصمة التركية أنقرة.
وفي محاولة لملمة صفوف الجيش التركي وإعادة الاعتبار لرمزيته في بناء الأمة، لم تتردد الحكومة التركية بعد نحو شهر من انتهاء المحاولة الانقلابية، في شن عملية درع الفرات في ريف حلب الشمالي. وعلى الرغم من أهميتها الاستراتيجية للأمن القومي التركي، فقد ساهمت هذه العملية في إشغال الجيش التركي بعملية خارج الحدود، سيكون مضطراً خلالها لتحقيق النصر، بينما تستمر الحكومة التركية بالتركيز على إعادة ترتيب الأوضاع وتصفية الانقلابيين.
وبدا واضحاً وجود استراتيجية متكاملة للحكومة التركية لإعادة الاعتبار للجيش، أدت فيها وسائل الإعلام بكل توجهاتها الموالية والمعارضة دوراً كبيراً، فتمّت صناعة عدد من الأفلام السينمائية عن ذوي القبعات الحمراء من القوات الخاصة، وصولاً إلى عرض أربع قنوات موالية ومعارضة للحكومة التركية وفي وقت متزامن مسلسلات خلال فترة التعديلات الدستورية تعيد الحياة لهيكلية الجيش التركي. ومن الصعب حصر أعداد الضباط والعسكريين الذين تم تسريحهم من الجيش، ولكن بحسب وكالة "الأناضول"، ونقلاً عن مصادر في وزارة الدفاع التركية، فقد تم تسريح 7 آلاف و655 عسكرياً، بينهم 150 جنرالاً وأميرالاً (حوالي نصف جنرالات الجيش). وكذلك سُرّح 4 آلاف و287 ضابطاً، وتم إبعاد 786 عسكرياً عن الخدمة بشكل مؤقت لحين الانتهاء من التحقيقات بشأنهم.