أدرك أردوغان منذ بدء نشاطه السياسي أن المؤسسة العسكرية في تركيا يصعب كسرها مرة واحدة، فعمل على خطين متوازيين: الضرب قانونياً وقضائياً لإطاحة جنرالات الانقلابات المحتملة من جهة، والعمل على إنشاء كتلة صلبة داخل الجيش تواليه وحزبه، وهو ما أنتج بالفعل جيلاً من الضباط رفيعي ومتوسطي الرتب بات يسمى بـ"جيل ضباط أردوغان".
أردوغان، الذي يمكن كيل ما لا ينضب من الانتقادات لشخصيته وسلوكه، سعى جاهداً لتثبيت التقليد الديمقراطي من دون أن يتوهم بأنّ مؤسسة مصطفى كمال يسهل أن تقتنع، بما هي دولة عميقة مكتملة الأركان، لها إمبراطوريتها الاقتصادية وأحزابها المقربة منها وصلاتها الخارجية، أن واجبها أن تأتمر بالسلطة السياسية وتنفّذ، وأن دورها يقتصر على الحدود والحروب وحماية البلد، لا الحكم. من هنا، تسلّح الرجل بقوة شعبية كبيرة توازي نصف الكتلة الناخبة (نصف الشعب التركي مجازاً) تظهر في كل استحقاق انتخابي، بالإضافة إلى إعادة هيكلة أجهزة المخابرات والجيوش البرية والبحرية والجوية بشكل يصبح فيه ظهر السلطة السياسية آمناً. لكن بدا أن كل ذلك لم يكن كافياً أمام عدد أعداء أردوغان في الداخل والخارج المتلازمين طبعاً.
بمجرد أن يكون حكام إسرائيل وروسيا وسورية والعراق ومصر ودولة خليجية صارت راعية حصرية للانقلابات، سعداء ضمنياً أو علناً بمحاولة الانقلاب، وهو ما يظهر في التغطية الإعلامية التابعة لهؤلاء، وبمجرد أن يبقى الداعية فتح الله غولن، المتهم بكونه أحد الواقفين خلف محاولة الانقلاب، مقيماً في بنسلفانيا الأميركية حتى اليوم، فإنّ كل ذلك يوحي بمجموعة من خيوط المؤامرة التي تُرجمت بصوَر مباشرة أقل ما يقال فيها إنها مقرفة. أما موقف وزير الخارجية الأميركية جون كيري، الذي اكتفى بتمنّي الحفاظ على الاستقرار في تركيا، فإنه موقف مريب بأقل تقدير، إن لم يكن متواطئاً مع الانقلاب. لكن اليوم ربما ليس وقتاً للقرف بالنسبة للأتراك الذين لطالما عانوا من ويلات جنرالات انقلاب جيش المليون ضابط وجندي.
هكذا، تبدو الصورة متجهة نحو سيناريوهين أيضاً متلازمين ربما، يبدأ الأول بتحرك شعبي عام وفوري رافض للانقلاب من خصوم أردوغان قبل مؤيديه، في الطرقات على شاكلة عصيان مدني ضد العسكر، وهو ما لا بد أن يحرك الفئات العسكرية الكبيرة الرافضة للانقلاب، أكان ذلك قناعةً بدورها أو موالاةً للحكومة وللسلطة السياسية عموماً. وحده تحرك شعبي كبير جداً وفوري في بلد الثمانين مليوناً، من شأنه أن يحرك العسكر الرافضين للانقلاب، من وحدات في الجيش، ضباطاً وجنوداً، وشرطة وجهاز استخبارات لإعادة الساعة سريعاً إلى ما قبل الحادية عشرة من ليل 15 يوليو/تموز 2016، ساعة الصفر لمحاولة الانقلاب.
وأي سيناريو آخر من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة واحدة: الحرب الأهلية؛ فتركيا بلد فيه من التعقيدات الإثنية والطائفية والانقسامات ما يجعلها قابلة للاقتتال الأهلي، حيث تختلط ثنائيات علمانيين/إسلاميين، أكراد/أتراك، سنة/علويين... بينما الانقسام الأساسي المنطقي والعقلاني اليوم، في هذه اللحظة بالذات، يجب أن يبقى مع الانقلاب/ضد الانقلاب. مؤشرات النزول الجماعي لرافضي الانقلاب إلى الشوارع توحي بالتفاؤل، كذلك مواقف الحزبين الرئيسيين في المعارضة، الشعب الجمهوري والحركة القومية، كذلك مواقف مشرفة لرموز كارهة لأردوغان، مثل الشيوعي رون مارغولياس دعت إلى النزول لمواجهة الانقلاب.
عاملان يمكن البناء عليهما ليتحرك الحكماء من ضباط وجنود رافضين للانقلاب وللحرب الأهلية قبل أن يفوت الأوان... فتركيا، التي صارت شبه دولة عربية لناحية أهميتها وموقعها من قضايا العرب والإقليم، تبقى فسحة أمل تعددي ديمقراطي ولو نسبي جداً أمام الخراب الشامل الذي كان العسكر وانقلاباته أساساً فيه، من سورية إلى مصر والعراق والقضية الفلسطينية.