أحكمت السلطة في الجزائر قبضتها على الإعلام، بشكل يضمن بثّ خطاب سياسي واحد يتعلق بدعم الانتخابات الرئاسية والإشادة بالجيش وبمواقفه، وعزل الخطاب المناوئ، ليبدو الوضع الراهن للأداء الصحافي أكثر تعقيداً من ما قبل 22 فبراير/شباط الماضي، حين بدأت التظاهرات الشعبية في البلاد.
إذ لم يعد مسموحاً للإذاعات والقنوات التلفزيونية الحكومية والمستقلة باستضافة ناشطين أو متحدثين باسم الحراك الشعبي ورموز من النسيج الشعبي والسياسي للحراك والمعارضة الملتزمة بمطالب 22 فبراير، كما تواجه القنوات ضغوطاً لدفعها إلى الامتناع عن تغطية التظاهرات ونقل شعاراتها وتوثيقها، ما أدى إلى حالة من الخيبة في القطاع الصحافي والإعلامي الذي تعشم خيراً بفسحة الحرية التي أتاحتها التحركات الشعبية.
لذا، وقّع أكثر من 500 صحافي على بيان مبادرة "تصدي صحافة" لإشهاد الرأي العام الوطني على التضييق الممنهج الذي يتعرضون له، سواء في وسائل الإعلام الحكومية أو المستقلة. ويؤشر هذا العدد على مستوى استياء الصحافيين الذين ضاقوا ذرعاً بهيمنة وبسط السلطة يدها على وسائل الإعلام ومجموع الدعامات الإعلامية، وتحديداً في ما يتعلق بمتابعة أخبار وتطورات تظاهرات الحراك الشعبي، إذ وضعوا في حالة قطيعة مع الشارع والحدث السياسي في الجزائر، وفي مواجهة مع الضمير والمسؤولية الأخلاقية إزاء الشعب الذي لم يعد متسامحاً مع صحافة يصفها بـ "الخاضعة" حيناً، و"المتواطئة" مع السلطة حيناً آخر.
وتجمع الصحافيون الجزائريون، أمس الجمعة، في مربع خاص وسط العاصمة الجزائرية، للتنديد بالرقابة التي تفرضها السلطات على وسائل الإعلام ولتنظيم تغطية مباشرة ورمزية لتظاهرات الحراك الشعبي في الجمعة الـ 39، في ظل الضغوطات الممارسة عليهم. واستجاب العشرات من الصحافيين العاملين في مختلف وسائل الإعلام الحكومية والمستقلة، للردّ ميدانياً وجماعياً على الضغوط والرقابة التي تمارسها السلطة والأجهزة الأمنية على القنوات والصحافيين والمراسلين.
وحمل الصحافيون شارات صفراء كتب عليها" صحافي حر"، تعبيراً عن تحررهم ورفضهم للرقابة، وإشهاد الراي العام على موقفهم، والانخراط في المطالب الديمقراطية للشعب الجزائري. وهتفوا شعارات: "صحافة حرة مستقلة"، و"حرروا الصحافة"، وحدث جدل ونقاش واسع بين الصحافيين والناشطين المشاركين في الحراك الشعبي الذين عاتبوهم على تأخرهم.
وقال الصحافي أكرم خريف، أحد الفاعلين في المبادرة، لـ" العربي الجديد" إن "هذه الخطوة كانت ضرورية لتأكيد موقف الصحافيين"، مثمناً تفهم الحراك الشعبي لوضع الصحافيين والضغوط الممارسة عليهم. وأضاف "كان استقبالاً حاراً واحتضاناً حميماً من طرف المواطنين المشاركين في المسيرة، وكان مثابة تشجيع بعد الإحساس بالعزلة التي ربما أحس بها المناضلون في الميدان".
(العربي الجديد)
ولا يختلف المراقبون على أن الضغوط والإكراهات على الصحافة والصحافيين في الجزائر بلغت حداً غير مسبوق، مع عودة رقابة أمنية على المنتج الإعلامي ورفع حساسية السلطة إزاء أي نقد يوجه إلى الجيش وقائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح، وشملت المراسلين العاملين في القنوات الأجنبية.
في إبريل/ نيسان الماضي طُرد مدير مكتب وكالة "فرانس برس" في الجزائر من دون سبب، بعدما رفضت السلطات الجزائرية تجديد اعتماده وتصريح إقامته. وواجه مراسلا قناتي "سكاي نيوز" و"العربية" الاعتقال العشوائي، واعتدي على مراسل قناة "الحرة" محمد جرادة، و"روسيا اليوم" حمزة عقون، وصحافي قناة "النهار" المحلية سابقا عبد الجبار بن يحيى، ومُنع مراسلون من العمل كفريق قناة " العربي"، وسلطت الملاحقة القضائية على صحافيين آخرين، بينهم الإذاعي عادل عازب الشيخ، على خلفية بث فيديو احتجاج عاطلين عن العمل، والصحافيين في صحيفة "الخبر" بوعلام غمراسة وخالد بودية، بسبب نشر معلومات ومستندات أمنية. وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، اعتقل مراسل قناة "الميادين" في الجزائر، سفيان مراكشي، بتهمة تحريض الجماهير وبث صور للتظاهرات، ولا يزال في السجن إلى الآن.
وفي هذا السياق، يرى الكاتب الصحافي، توفيق بوقاعدة، أن "السلطة في الجزائر منذ يوليو/تموز الماضي قررت نزع كل عناصر قوة الحراك وكل ما يشكل رمزية تزيد من وهجه وقوته، فبدأت بغلق الأماكن التي صار لها رمز لحراك الجزائر مثل نفق الجامعة ومدرج البريد المركزي، حيث كانت تصنع شعارات التظاهرات، وعندما لم تفلح، عمدت إلى تفكيك الحراك بإثارة نعرات التفرقة، وهي بكل هذا تمهد لوأد الحراك حسب ظنها".
ويضيف بوقاعدة الذي يعمل أيضاً أستاذاً في كلية العلوم السياسية، أن "فشل السلطة في السيطرة على تلك الساحات دفعها إلى تركيز جهدها على الإعلام الذي يمثل بالنسبة لها مجرد أداة في خدمة أجندتها، وهو دأبها منذ الاستقلال. وقد أمعنت في الغلق كي لا تسمح ببروز الرأي المخالف لرأيها، والسعي للترويج لخارطتها، وهو في اعتقادي إشكالية بنيوية في تفكير النظام الذي لا يزال حبيس مرحلة تاريخية كانت فيها الرسالة الإعلامية ذات توجه موحد".
ويشير بوقاعدة إلى أن التضييق الذي تمارسه السلطة ينطلق أساساً من موقفها المسبق من الإعلام، إذ لم تستوعب السلطة في الجزائر على مدى التاريخ السياسي للبلاد أن يكون الإعلام مؤسسة وسلطة مستقلتين بل مجرد وظيفة. ويقول: "تستوعب السلطة فكرة أن الإعلام وظيفته نقل رسائل الشعب لها وردها عليه، ولأنه نظام مغلق غير معني بما يحدث في محيطه، فرأى أن إسكات الأصوات المعارضة في الإعلام كفيل بالحفاظ على ولاء كتلة ناخبة لا تستطيع فهم رسائل منصات التواصل الاجتماعي والتفاعل معها، وهم الفئة التي تسكن القرى والأماكن البعيدة عن المدينة، بالإضافة إلى كبار السن".
وما يعقّد من وضع الصحافيين في الجزائر ويعرضهم للمضايقات والملاحقات والتضييق والتهميش الاجتماعي أيضاً هو البيئة التشريعية التي لا توفر الحماية لهم، ولا تؤمن طرقاً مباشرة للوصول إلى المعلومة. ويؤكد الصحافي وعضو شبكة المراسلين لصحيفة "الخبر"، كبرى الصحف الجزائرية، رشيد بوطلاعة لـ "العربي الجديد" أن "الصحافيين والمراسلين يؤدون مهامهم في بيئة تفتقر للثقافة الإعلامية، وتخلو من المناخ المناسب للعمل، على غرار صعوبة الوصول إلى مصدر الخبر، والتعامل مع الصحافي من باب المصلحة لتقديم خدمة أو اتقاء شر غياب الحماية، فالصحافي عرضة لكل الأخطار الممكنة. هذه السلطات لا تعتبر الصحافي شريكاً فعلياً في التنمية، بل مجرد خادم لها".
ويشير بوطلاعة الذي يغطي مجمل الأحداث في منطقة ميلة، قرب مدينة قسنطينة شرق الجزائر، إلى أن "الضغوطات التي تمارس على الصحافي في الجزائر كثيرة ومتعددة ومتفاوتة الخطورة، منها ضغوط من السلطات التي تسعى دوماً لملاحقة أي صحافي يعارض طريقة التسيير والتدبير ويكشف عن عورات تتعلق بالشأن العام والتهديد بالعدالة أو التخويف، وثمة ضغوطات تخص منع حصوله على المعلومة، وضغوطات من نوع آخر تخص محاولة استغلال أوضاع الصحافيين واستدراجهم ببعض الامتيازات لإسكات أصواتهم".
وعلى الرغم من هذا الوضع الذي يعيشه الجسم الإعلامي في الجزائر، فالصحافيون لم ينجحوا في إنشاء هيكل نقابي قوي يوحد مطالبهم ويدافع عنهم وعن المهنة. ويعتبر الكثير من الإعلاميين أن غياب نقابة قوية يبقى أحد أبرز عوامل ضعف الأسرة الإعلامية، ويعزلها عن أي مبادرة تخص المهنة ويضعف موقفهم في الظروف الخاصة. ويعتبر الصحافي في هيئة التحرير المركزية لصحيفة "الشروق"، رضا ملاح، أن "حجم الفوضى التي يغرق فيها القطاع سبب كل هذه المآسي التي تعيشها الصحافة اليوم. النظام عمل أن تسير الأمور بهذه الطريقة، وساعده في ذلك تشتت الصحافيين، ففي بعض الأحيان تموت المبادرات في مهد الفكرة بسبب التخوين والتراشق بالخلفيات الضيقة". ويوضح رضا في تصريح لـ "العربي الجديد" أن "الصحافي في الجزائر اليوم لا يجد وراءه ذلك الإطار أو المؤسسة النقابية التي تحمي ظهره وتنتصر له، ولا يوجد هيكل نقابي يجمع بين الصحافيين باستمرار يتقاسمون فيه هموم ومشاكل مهنتهم، لذلك بات اليوم أكثر من ضروري تكتل أبناء المهنة في إطار نقابي لإسماع صوتهم"، مضيفاً أن الخيبات السابقة في هذا السياق تفرض على " الصحافيين الاستدراك اليوم حيث لا مفر من التكتل في جسم نقابي للدفاع وإنقاذ المهنة، اليوم يتوجب عليهم كسر حاجز الخوف والتضحية من أجل رفع القيود المفروضة عليهم، اليوم توجد مبادرات كـ (المجلس الوطني للصحافيين) لكن غير كافية، ونتمنى أن يتعزز الوسط الإعلامي بثقافة الإيمان بالعمل النقابي والتضحية".
للمفارقة، كان الصحافيون في الجزائر يتطلعون إلى توسيع هامش الحريات بعد حراك فبراير/شباط الماضي، لكن الواقع يؤكد أنه لا يزال أمامهم وقت ومرحلة نضالية طويلة لإنهاء هيمنة السلطة على المشهد الإعلامي والحد من التضييق والملاحقات وإصلاح كل الخلل، ويضع السلطة الرابعة في موقعها كسلطة وظيفية مضادة، من دون أن يكون الصحافيون ضحايا لسلطة الرأي الواحد.