ابنتي الغالية لفتا..
ورثنا من أهلنا ذكريات وتفاصيل النّكبة برمّتها ، فكّرنا ماذا سنورثك للعمر القادم، فأيقنا كلام شاعرنا الدرويشيّ أنّ الأرض تورث كاللّغة، فوهبناك اسمك لفتا، ليرافقك وأبناء جيلك إلى لفتا إلى فلسطين. دعيني يا ابنتي أحدّثك عمّا حفظته وسمعته عن تاريخ نكبتنا، ليكون لك إرثا تحفظينه، ولربمّا يصبح كلامًا منسيًا في غمرة تاريخ جديد..
تتجدّد في كلّ عام ذكريات النّكبة، ومن ثمّ النّكسة.. تتجدّد معها الآلام والأحلام لتكون مزيجًا بعبق الوطن وحنين العودة للبيت والوطن الأمّ فلسطين.. ففي كلّ مايو/أيّار من كلّ عام نستعيد ونستذكر، نحن أبناء الجيل الثّالث، تفاصيل النّكبة بكلّ مكوّناتها وأبعادها النّفسيّة والاجتماعيّة وكل ما يحيطها من قريب أو بعيد، نحاول أن نختزل ذكريات التشرّد واللّجوء.
ومن ثمّ يأتي يونيو/حزيران محمّلا بذكرى النّكسة، سبعة وستّون عامّا ولا يزال الجرح نازفًا لا يعرف الشّفاء ولا النّسيان ولم يستطع الاحتلال صهر الفلسطينيين في المجتمع الاسرائيليّ، ولم ينس الفلسطينيّ حقّه في الوجود على أرضه ولم ينفكّ بحلم العودة.. العودة إلى فلسطين وإلى القرى والمدن الّتي هُجّر منها عنوةً.
كل الفلسطينيين يعرفون معنى التّهجير واللّجوء ومنهم من ذاق طعم اللجوء مرّات عديدة فقد تعدّدت النّكبات واللّجوء واحد. لم تبدأ حكاية التشرّد والتّهجير عام ثمانية وأربعين فقد كان الفلسطينيون يضمّدون جراحهم من نكبة التآمر على ثورة عام 36 الشّعبيّة والأكثر تنظيمًا على الإطلاق والّتي كانت هي الأقرب إلى الحريّة والاستقلال.
بعدها جاءت نكبة 48 حاملة معها بداية مشوار اللّجوء، ليصبح غالبيّة الشّعب الفلسطينيّ لاجئين في وطنهم أو في مخيّمات اللًّجوء في الدّول المجاورة. نجحت نكبة 48 في تشتيت الفلسطينييّن أينما وجدوا، فمنهم من يعيش الغربة في بلده ووطنه، والآخر يعيشها خارج الوطن، وأصبح الفلسطينيّ في الدّاخل يعيش تحت مطرقة الاحتلال وبظروف قاهرة عزلته عن امتداده الطّبيعيّ مع عائلاته في دول الجوار.
كانت محاولات الاحتلال ومؤسّساته تتركّز في الحرب على الهويّة ومحاولة أسرلة فلسطينييّ الدّاخل، هذه المحاولات باءت بالفشل أمام قيادات الحركة الوطنيّة التّي نجحت في تثبيت الهويّة الفلسطينيّة، فشّكلت منظّمة التّحرير بميثاقها الَّذِي يهدف إلى تحرير الأرض والإنسان ثمّ جاءت النّكسة عام 67 لتجمع الشّمل والتّواصل بين شقيّ الوطن لتبقى العزلة من نصيب الشّتات.
أمّا النّكبة الكبرى لفلسطينييّ الدّاخل فقد كانت في أوسلو، فهي النّكبة المعنويّة الكبرى، حيث قامت منظّمة التّحرير بالتّخلي عن فلسطينييّ الدّاخل وتغيير ميثاقها لتصبح منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، لا تمثّل فلسطينييّ الدّاخل، واعتبرتهم شأناً إسرائيلياً داخلياً، وهذا ما رفضناه ونرفضه جملة وتفصيلا، لأنّنا ننتمي إلى فلسطين كلّ فلسطين.
ابنتي الغالية..
إنّ قصص النّكبة واللّجوء كثيرة، لأنّ كلّ مهجّر يحمل حكاية في قلبه، يحمل هذه الحكاية لتكون جزءًا منه، وإذا التقينا بأجيال النكبة ليقصّوا علينا بعضًا ممّا عندهم، نراهم واجمين يطرقون بالماضي، وكأنّه الأمس، فيتذكّرون التّفاصيل الصّغيرة ويسردونها دون ملل وكأنهم يعيشون التّفاصيل اليوميّة. العودة تورث من جيل الى جيل وتفاصيل النّكبة تروى بدقّة وأمانة متناهية في النّقل لأنّ قصّة اللجوء تحفظ العودة، كلّنا يعيش مع قصص مختلفة للنّكبة، وكل فرد أثّرت عليه بشكل مختلفة، ولا أنسى يا ابنتي قصّة أجدادك وبلدتك لفتا، تلك البلدة الجميلة الّتي تطلّ وتلتفت لمدينة القدس قد هّجر أهلها عنها في الدّاخل والخارج.. فاللاّجئون يحلمون بالعودة، يحلمون بالبيوت والحارات وأشجار الزيتون والصّبار في مخيّلتهم حتّى لو لم يروا شمس فلسطين ولم يداعبهم نسيمها.
فاحلمي يا ابنتي واجعلي خيوط الشّمس تغزل لك جسور العودة واعلمي أنّ من تعبّد النّور أحلامه يباركه النّور أنّي ظهر حتّى لو تأخّر قليلا لأنّنا أصحاب قضيّة. وأنّ ميثاقنا هو الثابت الَّذِي لم ولن يتغيّر، لأن جذوره ضاربة في أعماق الأرض، فكلّ ما ورثناه من صور ومشاهد حقيقيّة باتت تعشّش في ذاكرتنا، ذاكرة تجعلنا أقوى، ورثنا حقّا لا يسقط بالتّقادم، فكل ما ورثناه نورثه لك، على أمل أن تكوني وأبناء جيلك الحلقة الأخيرة في مشوار اللّجوء، فحافظوا عليه ليكون بوصلتكم الحقيقيّة الّتي ستقودكم إلى فلسطين.
(فلسطين)