يجد العراقيون أنفسهم اليوم، محاطين بالموت من كل جهة. وبينما يجهدون لتأمين مأوى لأطفالهم يقيهم من جحيم القصف في مخيمات النزوح النائية، وجدوا أنفسهم في مواجهة أوبئة وأمراض خطيرة ورحلة موتٍ جديدة، تحت عنوان الكوليرا.
ظهرت أولى إصابات الكوليرا في مدينة أبو غريب التي تقع على بعد عشرين كيلومتراً غرب العاصمة العراقية بغداد، لينتشر بسرعة كبيرة. حصيلة الإصابات الأولى التي كانت قد أعلنت عنها السلطات الصحية في البلدة قبل نحو أسبوعين، هي 22 شخصاً، قبل أن تبلغ اليوم المئات. وقد أوضحت هذه السلطات في تصريحات سابقة أنّ "ظهور المرض يعود إلى استخدام أهالي المدينة والقرى التابعة لها، مياه الآبار التي لا تصلح للاستهلاك البشري، نتيجة شح مياه النهر".
جدال حول الأسباب
وراح المرض ينتشر بسرعة في مدن وبلدات أخرى، ليبلغ مدينة البغدادي والعاصمة بغداد قبل أن ينتقل جنوباً إلى كربلاء والنجف والحلة والديوانية وغيرها. ويحتدم الجدال بين أهل الاختصاص والمراقبين والناشطين حول أسباب ظهور المرض الذي اختفى من البلاد بعد آخر الإصابات التي ظهرت عام 2012 بحسب المصادر الطبية.
يقول مهندسون، إنّ شحّ مياه نهر الفرات الذي يمرّ في أبو غريب باتجاه المناطق الجنوبية، أسفر عن ركود المياه، فضلاً عن تهالك محطات التنقية في المدينة، ما تسبب في انتشار المرض. ويشرح المهندس المتخصص في الري والمبازل (المصافي) حامد خضر لـ "العربي الجديد" أنّ "شحّ مياه النهر يتسبب في بطء جريان المياه وركودها في بعض أجزائه، الأمر الذي يؤدّي إلى تحوّل المياه في مناطق قريبة من النهر إلى مياه آسنة تتركّز فيها البكتيريا وتخلّف الأوبئة والأمراض". يضيف خضر أن "ما يساهم في انتشار المرض، أيضاً، هو تهالك محطات تصفية مياه الشرب في مدينة أبو غريب، على الرغم من مناشداتنا المستمرة للجهات الحكومية بضرورة إعادة تأهيلها، من دون جدوى. وهو ما دفع المواطنين إلى شرب مياه الآبار الملوّثة والتي تختلط في بعض المناطق بالمياه الآسنة".
إلى ذلك، يرى أطباء وباحثون أنّ الكوليرا من الأمراض المستوطنة في البلاد وهو يظهر من فترة إلى أخرى، كلما تراجع الاهتمام بالجانب الصحي المتعلق بمياه الشفة والأطعمة المكشوفة. ويؤكد الباحث في صحة المجتمع الدكتور مثنى الراوي لـ "العربي الجديد" أنّ "الكوليرا من الأمراض المستوطنة في العراق، وقد ظهر فيه منذ مطلع القرن العشرين ليختفي ويظهر من جديد بحسب نسب التلوّث. ولو تابعنا تاريخ ظهور المرض في العراق، سوف نجده متزامناً مع تلوّث المياه، خصوصاً في المدن والقرى التي تفتقر إلى محطات تنقية متطورة". تجدر الإشارة إلى أن في عام 2007، توفي 11 مواطناً بعد إصابتهم بالكوليرا، فيما أصيب ألفان ومائة آخرون في مختلف المحافظات العراقية. أما في عام 2012، فسجُّلت آخر وفيات بسبب الكوليرا، وقد قضى أربعة أشخاص في إقليم كردستان العراق (شمال).
من جهتها، تقول الباحثة في الأمراض المستوطنة يارا محمد لـ "العربي الجديد" أنّ "ثلاثة عوامل أساسية ساهمت في انتشار الكوليرا أخيراً، أولها شحّ مياه النهر وثانيها تهالك محطات تصفية مياه الشرب وإهمالها من الجهات الحكومية، أما العامل الثالث فقلة الوعي الصحي لدى المواطنين. هم لا يتورعون عن استعمال مياه الآبار الملوثة أو تناول الأطعمة المكشوفة، خصوصاً في المناطق الشعبية".
في المقابل، يخالف ناشطون ومراقبون ما يصرّح به الأطباء والمختصون حول أسباب انتشار الكوليرا، ويرون أنّ انتشار المرض بهذه السرعة الكبيرة كان "بفعل فاعل".
"تعتيم رسمي" مستنكَر
ويشير الباحث في الأمراض الوبائية منير الصميدعي لـ "العربي الجديد" إلى أنّ "وزارة الصحة لا تريد كشف الأرقام الحقيقة لعدد الإصابات بالمرض في البلاد، ونلاحظ تضارباً في الأرقام التي تصدرها الوزرة تباعاً. وهو ما ينعكس سلباً على حياة المواطنين". ويشدّد على أنّ "وزارة الصحة لم تتخذ إجراءات وقائية عند بدء أزمة شحّ المياه في البلاد، التي رافقت العمليات العسكرية التي كانت قد انطلقت قبل عامين، ولم تفتّش محطات تنقية المياه في أبو غريب وغيرها من المدن التي ظهرت فيها أولى الإصابات بالمرض. المحطات هناك كانت قذرة ومتهالكة".
إلى ذلك، يطالب بعض المراقبين وزارة الصحة بالإعلان عن الأرقام الحقيقة للمصابين وعدم التعتيم عليها، ويحثّون الحكومة بضرورة الإسراع في تأهيل محطات تنقية مياه الشرب وشبكات الصرف الصحي التي كانت سبباً رئيسياً في انتشار المرض بحسب ما يشيرون.
اقرأ أيضاً: هذا هو واقع دول الجوار