03 أكتوبر 2024
تونس الطاردة للإرهاب
لم يكن الحدث الإرهابي الذي شهدته مدينة بنقردان التونسية الأول، وربما لن يكون الأخير، لكنه أكد جملة من الوقائع على الأرض، لا يمكن أن تخفى عن المراقب المحايد والمتابع للمشهد التونسي العام، فعلى الرغم من ضخامة العملية الأخيرة، بالنظر إلى عدد المسلحين الذين شاركوا فيها، وكمية الأسلحة التي جلبوها معهم، وعلى الرغم من اتساع العملية، لتشمل ثكنة عسكرية ومنطقة للحرس الوطني ومرافق حكومية، إلا أنها أفضت إلى غير ما كانت تأمله جماعات الإرهاب من إثارة للفوضى، واستقطاب السكان المحليين للانضمام إليها، وهو ما أشار إليه شهود عيان من استخدام هذه المجموعات مكبرات الصوت لدعوة الناس لمساندتها، فقد كان رد الفعل الشعبي فوق المتوقع، من حيث رفضها نداءات جماعات الإرهاب، بل ومساندتها التامة للجيش الوطني وقوات الأمن الداخلي، وتحولت المعركة من صراع مسلح بين قوات نظامية وجماعات مسلحة إلى مطاردة شعبية واسعة للعناصر الإرهابية التي لم تجد ملجأً واحداً في مدينة بنقردان.
ما جرى في هذه المدينة تعبير مصغر عن مدى رفض الشعب التونسي الإرهاب، وانحيازه لخيارات الدولة الوطنية في انتقالها الديمقراطي، وبنائها الدولة المدنية التي تحتكم للقانون والمؤسسات، بعيدا عن لغة الفوضى والسلاح ومنطق الشعارات الدوغمائية عن الخلافة ومسميات الدولة الإسلامية. أساء الإرهابيون تقدير الموقف باعتقادهم أن الوضع التونسي قد يوفر بيئةً حاضنةً، يمكنهم استغلالها للانتشار والتوسع، وعلى الرغم من أن غالبية المهاجمين هم من حملة الجنسية التونسية، بل ومن أبناء المدينة نفسها (بنقردان)، إلا أن رد الفعل الشعبي أثبت أن الشارع التونسي حسم خياراته وتوجهاته، نحو تكريس دولة المواطنة، بعيداً عن كل المهاترات الدعائية التي حاول القادمون من خارج الحدود فرضها على الناس بقوة السلاح.
كان واضحاً، ومنذ نجاح الثورة التونسية، وعلى الرغم من ضعف السلطة المركزية حينها، وغياب الدولة عن بعض المناطق، تمسك الناس بالهيكل السياسي الذي ينتمون إليه، ورغبتهم في إعادة بنائه، وفق أسس أكثر حريةً وعدالةً، فلم يكن هدف الثورة يوماً استبدال نظام استبداد علماني مغلق بنظام ديني مغرق في الشعارات القروسطية، والأطروحات الدوغمائية التي تسوّق الأوهام. بل وشكلت ظاهرة هجرة بعض التونسيين إلى مناطق القتال في الدول الأخرى دليلا
آخر على أنهم فشلوا في استنبات أفكارهم في البيئة التونسية، وإيجاد الحاضنة الاجتماعية التي تمدهم بالقوة والاستمرارية، فهناك فرق بين تونس الطاردة للإرهاب ودول جاذبة للإرهاب، بما توفره من تربةٍ خصبةٍ لتبيئة مزيد من أشكال العنف والصراع، بالنظر لوضعيتها المجتمعية الهشة، سواءً من خلال صراعاتها الطائفية، وانعدام معنى فكرة المواطنة، أو الشعور بالانتماء للوطن الذي تحوّل إلى رهينةٍ في يد أنظمةٍ، يتواشج فيها الاستبداد بالطائفية، وهو ما حولها إلى مسرحٍ كبيرٍ لتدخلات دولية وإقليمية، وإلى نقطة جذب لكل راغبٍ في تجسيد أحلامه المذهبية والدينية والعرقية، يستوي في ذلك تنظيم داعش أو عصائب أهل الحق أو حزب الله، فكل هذه الجماعات لا تؤمن بمعنى العيش المشترك، ولا بدولة المواطنة المدنية، ولا تعرف معنى التعددية السياسية، أو دلالة بناء دولة ديمقراطية تحفظ للجميع حقوقهم. ومن هنا كان من الطبيعي أن "تطرد" تونس إرهابييها إلى الخارج، وكأنها تنفي عن نفسها الخَبَث، وتنقي ذاتها من كل ذوي الميول العنيفة الذين استقرّوا في مواطن الصراع والفوضى، باختلاف جغرافياتها.
لقد مثّل التحول الديمقراطي التونسي، وعلى الرغم من تعثراته، أحد أعمدة الوقاية من الإرهاب، وزاد في تمتين الوحدة الوطنية، ومنح الجيش التونسي بمواقفه الوطنية المعروفة حاضنة شعبيةً، ربما لا يتمتع بها جيش عربي آخر في المنطقة، فهذه القوة العسكرية الوطنية التي لا تمثل طائفةً، ولا تدافع عن نظام، ظلت دوماً قريبةً من الوجدان الشعبي، متجذرةً فيه، وهذا ما يمنحها أسبقيةً معنويةً في صراعها مع كل جماعات العنف والإرهاب.
بقي أن نشير إلى أنه، في ظل هذه النجاحات التي حققها الجيش التونسي والقوى الأمنية، بدت بعض "النخب" السياسية والحزبية وأذرعها الإعلامية دون مستوى الحدث، سواء في فهمها المشهد، أو محاولة إيجاد حلول مستقبلية لظاهرة الإرهاب، حيث انشغلت بتبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات لبعضها، بل ووصل الحديث ببعضهم إلى الدعوة إلى استئصال الآخر السياسي الذي يشاركه الوطن، ويدفع معه ثمن الدفاع عنه، بشكلٍ لا يساهم في تمتين الجبهة الداخلية، وأساءت بعض أجهزة الإعلام تغطية الحدث، وتحولت إلى أبواقٍ للدعاية الحزبية، أو للتحريض السياسي ضد أطرافٍ بعينها، وأحياناً انساقت نحو منطق التهويل والترويع، وهو أمر أشار إليه الجنرال المتقاعد أحمد شابير، مدير الاستخبارات العسكرية السابق، حين أكد "أن الإعلام يهول كثيراً"، معبراً عن رفضه التام المعطيات القائلة إن هنالك 6 آلاف تونسي في سورية، وفي مناطق النزاع بالعالم. مضيفاً "هذه كذبة مخابرات، يسوقها بعض الإعلاميين في الداخل"، وإن هذا التهويل الإعلامي لا يخدم المعركة ضد الإرهاب الذي يحاول زرع ثقافة الخوف والشكّ لدى المواطنين، وبالتالي، على أجهزة الدولة، وخصوصاً الوزارات المعنية، السير نحو تحصين الرأي العام من مغبّة السقوط في فخّ الاستسلام والإرباك.
أثبتت الوقائع المتتالية في تونس مدى قدرة شعبها على إدارة شؤونه بصورةٍ مدنيةٍ واعيةٍ، ترفض الانزياح لمنطق العنف، أو الاستجابة لدعوات جماعات العنف، أو قوى الإقصاء، مهما كانت خلفياتها، وهو ما يمثل بالفعل الضمانة الفعلية لنجاح التحول الديمقراطي التونسي واستمراريته، ويقدم درساً حياً أن الشعوب متى امتلكت زمام أمورها بيدها، بعيداً عن أنظمة الاستبداد والانقلاب، قادرة على حماية مكاسبها، والانتصار على الإرهاب.
ما جرى في هذه المدينة تعبير مصغر عن مدى رفض الشعب التونسي الإرهاب، وانحيازه لخيارات الدولة الوطنية في انتقالها الديمقراطي، وبنائها الدولة المدنية التي تحتكم للقانون والمؤسسات، بعيدا عن لغة الفوضى والسلاح ومنطق الشعارات الدوغمائية عن الخلافة ومسميات الدولة الإسلامية. أساء الإرهابيون تقدير الموقف باعتقادهم أن الوضع التونسي قد يوفر بيئةً حاضنةً، يمكنهم استغلالها للانتشار والتوسع، وعلى الرغم من أن غالبية المهاجمين هم من حملة الجنسية التونسية، بل ومن أبناء المدينة نفسها (بنقردان)، إلا أن رد الفعل الشعبي أثبت أن الشارع التونسي حسم خياراته وتوجهاته، نحو تكريس دولة المواطنة، بعيداً عن كل المهاترات الدعائية التي حاول القادمون من خارج الحدود فرضها على الناس بقوة السلاح.
كان واضحاً، ومنذ نجاح الثورة التونسية، وعلى الرغم من ضعف السلطة المركزية حينها، وغياب الدولة عن بعض المناطق، تمسك الناس بالهيكل السياسي الذي ينتمون إليه، ورغبتهم في إعادة بنائه، وفق أسس أكثر حريةً وعدالةً، فلم يكن هدف الثورة يوماً استبدال نظام استبداد علماني مغلق بنظام ديني مغرق في الشعارات القروسطية، والأطروحات الدوغمائية التي تسوّق الأوهام. بل وشكلت ظاهرة هجرة بعض التونسيين إلى مناطق القتال في الدول الأخرى دليلا
لقد مثّل التحول الديمقراطي التونسي، وعلى الرغم من تعثراته، أحد أعمدة الوقاية من الإرهاب، وزاد في تمتين الوحدة الوطنية، ومنح الجيش التونسي بمواقفه الوطنية المعروفة حاضنة شعبيةً، ربما لا يتمتع بها جيش عربي آخر في المنطقة، فهذه القوة العسكرية الوطنية التي لا تمثل طائفةً، ولا تدافع عن نظام، ظلت دوماً قريبةً من الوجدان الشعبي، متجذرةً فيه، وهذا ما يمنحها أسبقيةً معنويةً في صراعها مع كل جماعات العنف والإرهاب.
بقي أن نشير إلى أنه، في ظل هذه النجاحات التي حققها الجيش التونسي والقوى الأمنية، بدت بعض "النخب" السياسية والحزبية وأذرعها الإعلامية دون مستوى الحدث، سواء في فهمها المشهد، أو محاولة إيجاد حلول مستقبلية لظاهرة الإرهاب، حيث انشغلت بتبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات لبعضها، بل ووصل الحديث ببعضهم إلى الدعوة إلى استئصال الآخر السياسي الذي يشاركه الوطن، ويدفع معه ثمن الدفاع عنه، بشكلٍ لا يساهم في تمتين الجبهة الداخلية، وأساءت بعض أجهزة الإعلام تغطية الحدث، وتحولت إلى أبواقٍ للدعاية الحزبية، أو للتحريض السياسي ضد أطرافٍ بعينها، وأحياناً انساقت نحو منطق التهويل والترويع، وهو أمر أشار إليه الجنرال المتقاعد أحمد شابير، مدير الاستخبارات العسكرية السابق، حين أكد "أن الإعلام يهول كثيراً"، معبراً عن رفضه التام المعطيات القائلة إن هنالك 6 آلاف تونسي في سورية، وفي مناطق النزاع بالعالم. مضيفاً "هذه كذبة مخابرات، يسوقها بعض الإعلاميين في الداخل"، وإن هذا التهويل الإعلامي لا يخدم المعركة ضد الإرهاب الذي يحاول زرع ثقافة الخوف والشكّ لدى المواطنين، وبالتالي، على أجهزة الدولة، وخصوصاً الوزارات المعنية، السير نحو تحصين الرأي العام من مغبّة السقوط في فخّ الاستسلام والإرباك.
أثبتت الوقائع المتتالية في تونس مدى قدرة شعبها على إدارة شؤونه بصورةٍ مدنيةٍ واعيةٍ، ترفض الانزياح لمنطق العنف، أو الاستجابة لدعوات جماعات العنف، أو قوى الإقصاء، مهما كانت خلفياتها، وهو ما يمثل بالفعل الضمانة الفعلية لنجاح التحول الديمقراطي التونسي واستمراريته، ويقدم درساً حياً أن الشعوب متى امتلكت زمام أمورها بيدها، بعيداً عن أنظمة الاستبداد والانقلاب، قادرة على حماية مكاسبها، والانتصار على الإرهاب.