مؤخراً، أعلنت "جمعة صيانة مدينة تونس" عن بدء مشروع طرحته سابقاً بتركيز إشارات رقمية على عدد من المعالم في مدينة تونس العتيقة مثل "دار لصرم" و"قصر خير الدين" و"دار بن عاشور" و"مدرسة بئر لحجار" و"سوق الشواشية"، حيث بدأ العمل على تركيز لوحات رقمية تؤرّخ للمعلم، بالإضافة إلى إشارات أخرى مبثوثة في أزقة المدينة تساعد في الوصول إليها.
جُهد المجتمع المدني في تونس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المدينة العتيقة لا يمكن إنكاره، غير أن هذه الجهود تظل مختنقة بوضع عام، أوّلها المرور من الموافقات الإدارية والإجراءات الطويلة التي يبرّرها المسؤولون (في البلدية ووزارة الثقافة بالخصوص) بأنها عنصر حمائي للمعالم، في حين أن معظم هذه المعالم تحت إشراف الدولة المباشر في الغالب وظلت لعقود تنتظر الرعاية والتثمين ولم يحدث من ذلك إلا القليل.
بيد أن أخطر ما يُهدر هذه الجهود يظلّ كون كل معلم من هذه المعالم محاصراً بأحياء في غاية التشويه المعماري، علماً أن هذه الأحياء المجاورة هي أيضاً جزء من المدينة العتيقة وحاملة لقسط من إرثها، غير أنه ليس من النادر أن نرى عمليات بناء عشوائية فيها، دون أن ننسى موجة الاستثمار التجاري الرث التي طاولتها من محلات بيع الأكل والملابس.
وخلف كل ذلك تضاف مشاكل متعلقة بالفئات التي تقطن فيها ذلك أنها غالباً ذات دخل محدود، وتبدو المسائل المتعلقة بالعيش المشترك وصيانة الفضاء العام من آخر أولوياتها.
وفي الحقيقة، فإن هذا الواقع الذي وصلته مدينة تونس العتيقة ليس سوى نتيجة لسياسات الدولة في الإسكان وفي المحافظة على التراث منذ عقود، حيث تعرّضت إلى ما يشبه التخريب الممنهج منذ سبعينيات القرن الماضي (يلاحظ هنا تناقض ذلك مع المنظور السياحي الذي اشتغلت عليه الدولة) مع إفقار الأرياف الذي نتجت عنه موجات من النزوح طاولت بالتدريج أجزاء من المدينة العتيقة، التي استسلمت في العقود الأخيرة للإهمال والبناء العشوائي والتوظيف التجاري حتى ترهّلت وفقدت الكثير من رونقها.
هل وَضَع مشروع الإشارات الرقمية كل هذا في الاعتبار؟ من خلال نموذج لأحد المعالم المعنيّة بالمشروع يمكننا أن نفهم الإشكالية القادمة، فمثلاً يقع قصر خير الدين في ساحة التريبونال، التي يبلغها المترجّل من حي الحفصية. سوف يكتشف بسرعة أنه في واحة داخل صحراء، ذلك أن الساحة تحظى بصيانة مستمرة، وهي في قمة النظافة بحيطانها البيضاء وأرضيتها المبلّطة ونباتاتها المغروسة ومقاعدها الحجرية.
لكن الحال على النقيض تماماً في الحفصية المجاورة حيث تجد بناءات متشقّقة وجدراناً من الإسمنت والآجر غير المدهون، وليس نادراً أن تكون الأزقة مليئة بالأوساخ، بالإضافة إلى تزايد منسوب الانحراف فيها.
فهل صورة مدينة تونس العتيقة تقتصر على خمسة معالم مُعتنى بها؟ يحتاج الأمر بالتأكيد إلى رؤية أوسع، فكل الجهود ستكون مهدورة في حال الاقتصار على واحات داخل صحراء من الإهمال والفوضى المعمارية.