لم يحتفل التونسيون كما ينبغي بمرور عام على حدث تاريخي كبير يتمثل في حصولهم على جائزة نوبل للسلام، في مثل هذا الشهر من العام الماضي. ومرّت الذكرى في صمت مطبق تقريباً. ولربما كان التونسيون منشغلين بجدال موازنة العام المقبل وما أحاط بها من خلافات واسعة، وكذلك بالإضراب العام الذي كان من المقرر تنفيذه في الفترة نفسها، لكن تم إلغاؤه في اللحظة الأخيرة. لكن المفارقة تتمثل في أن ما حدث خلال الأيام الأخيرة من حوارات ماراثونية بين غالبية مكونات المشهد التونسي، الرسمية والاجتماعية والمدنية، كان تكراراً لما حدث سنة 2013 وما بعدها، مع الفارق في حجم الرهانات. فحين تتأزم الأوضاع في تونس بشكل دوري، ويوشك التصادم أن يحصل، يتمكن الحوار دائماً من إنقاذ الجميع، من خلال التوصل إلى حلول وسطية عبر التنازل المشترك. وتستعيد كلمات الرباعي الراعي للحوار (الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين بتونس)، أثناء تسلمه جائزة نوبل للسلام، معناها كاملاً في الوقت الراهن للمشهد التونسي. وقد اعتبر عميد المحامين السابق، الفاضل محفوظ، أن "الخلافات مهما كانت طبيعتها يمكن تجاوزها عبر الحوار". واعتبر الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، حسين العباسي، أن الجائزة مُنحت لجميع الفاعلين السياسيين الذين اختاروا نهج الوفاق سبيلاً، وتغليب المصلحة العامة للبلاد على المصالح الضيقة.
غير أن السؤال الذي يتجدد في هذه المناسبة اليوم، يتعلق بمآل هذا الحوار في عمقه الاجتماعي، وهل تجاوز الفاعلون السياسيون حساباتهم الضيقة، كما ذكر العباسي في أوسلو؟ وعلى الرغم من أن التونسيين تجنبوا المنزلقات الخطيرة والانهيارات الكبرى، وحافظوا على مسارهم الديمقراطي في طريق لا يخلو من أخطاء متكررة، إلا أن الحقيقة تتمثل في أن الحسابات السياسية الحزبية الضيقة، بقيت طاغية على المشهد السياسي التونسي. وسيطرت الاستحقاقات القريبة والبعيدة على العلاقات السياسية. ومع احتفال التونسيين بذكرى الثورة بعد غد السبت (17 ديسمبر/كانون الأول)، يحتدم الجدل حول استحقاقاتها الكبرى، الاجتماعية بالأساس، وإذا ما تحققت أم لا، وإذا ما حادت الثورة عن مسارها وأهدافها التي قامت عليها.
صحيح أن حبل الحوار لم ينقطع بين التونسيين وممثليهم، في الدوائر والهيئات الرسمية والأحزاب والمجتمع المدني؛ وصحيح أن الإعلام يلعب دوراً مهماً في هذا الاتجاه، من خلال جمع الفرقاء باستمرار وكسر الحواجز بينهم؛ وعلى الرغم من أن التونسيين اختاروا التصادم عبر الكلمات وليس بالعنف، إلا أن التجربة أثبتت أن تونس بحاجة حقيقية إلى وضع أُطر واضحة تحمي فكرة الحوار وتحدد آلياتها بشكل يمنع السقوط في مطبّات وتهديدات تبقى قائمة باستمرار.
غير أن هذا الحوار التونسي يصطدم في كل مرة بمآزق حقيقية. يتعلق بعضها بحقيقة الفصل أو التداخل بين السلطات وعدم التخلص نهائياً، بعد، من روح نظام سياسي رئاسي أو رئاسويّ، عاش التونسيون على إيقاعه عشرات السنين. وتحتاج البلاد ربما لسنوات عدة حتى يستقر مبدأ الفصل بين السلطات بشكل نهائي في الذهنية السياسية العامة، على الرغم من الأسئلة والإشكاليات التي يطرحها نظام برلماني جديد سيظهر بعض الصعوبات في اختباراته المتلاحقة.
لكن وعلى الرغم من سلمية الصراعات السياسية، وتشبث الأغلبية بالأشكال والمواعيد الدستورية، غير أن الخلافات داخل الأحزاب وفي ما بينها، تعكس نَهَماً واضحاً لدى بعضها للسلطة. وقد أدت الصراعات العنيفة إلى تشتت بعضها وتلاشي أخرى. وأربكت التوازنات السياسية التقليدية. وألغت فكرة الحوار داخلها عبر تشبث كل طرف بموقعه وموقفه في ظل صمَمٍ سياسي لافت، يؤكد أن مبدأ التحاور الذي أنقذ التونسيين لا يزال بعيداً جداً لدى بعضهم.