04 نوفمبر 2024
تونس: نخب وفساد وتبديد للثقة
توشك تونس أن تطوي السنة التاسعة على ثورتها، وهي تعبر انتقالا ديمقراطيا مرتبكا وغير مستقر. وتتيح نظريات التحول الديمقراطي مقارباتٍ عديدة لفهم ما حدث ويحدث حاليا في حالاتٍ كهذه. تطل العلوم الاجتماعية والسياسية على التحول الديمقراطي الجاري حاليا من زوايا متعدّدة، لعل أهمها قدرات النخب الثقافية السياسية السائدة. ولذلك يتم التركيز على استثنائية النموذج التونسي الذي استطاع أن ينجو بمفرده من محرقة الحرب الأهلية أو الانقلابات التي عصفت بالثورات العربية الأخرى. ولكن يبدو أن النقلة النوعية التي تحدث في السودان، وتجري منذ أسابيع، قد تقدم نموذجا آخر ربما يحرج الحالة التونسية، ويتيح مقارناتٍ أكثر دقة وثراء، ففي الحالتين تظل النخب السياسية حاضرة بكثافة في إملاء التطورات اللاحقة التي عرفها البلدان. ثمّة ما يشبه القناعة بأن الشعب التونسي، بالمعنى الواسع للكلمة، أي تلك المساحة الفارغة من النخب وخارج دوائر السلطة وأحيزتها، قد ملّ هذا التحول، وأصبح هذا عبئا لا يستطيع الشعب مزيدا من تحمّله. تريد فئاتٌ واسعةٌ من هذا "الشعب الكريم" التخلّص من هذه النخب التي خصخصت الدولة، وأباحت استغلال أجهزتها لحسابها الخاص. وتثبت كل المؤشرات أن الفساد الحالي يتم بشكل مريب، ويتدرّج، لكنه ينخر تحديدا أجهزة الدولة الأكثر سيادية: الأمن، القضاء، الإعلام، علاوة على عالم الأعمال والمال.
وقد بدّدت تصريحات تناقلتها وسائل الإعلام التونسية أخيرا، واعترافات بعض المترشحين في انتخابات الرئاسة، ضمن أخطاء التواصل وزلات اللسان، بدّدت أقساطا كبيرة من رأسمال الثقة في النخب الحاكمة ومؤسسات الدولة ذاتها. إذ ما زالت تصريحات المترشح عبد الكريم الزبيدي (وزير الدفاع) تثير عاصفة من ردود الأفعال، فقد قال إنه كان على أهبة إرسال دبابتين إلى البرلمان لغلقه يوم 27 يونيو/حزيران الماضي، لمّا أصيب الرئيس الراحل الباجي السبسي بنوبة صحية، وانبرى البرلمان يناقش فرضيات شغور منصب الرئاسة والسيناريوهات الممكنة. لم يستفق التونسيون من دهشتهم تلك، حتى انهالت عليهم تصريحات المترشح الآخر سليم الرياحي، وهو المقيم في فرنسا، هربا من العدالة على خلفية ملاحقة قضائية تتعلق بتهم فساد، حين اتهم رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، بأنه يتدخل في شؤون القضاء الذي غدا عصا غليظة يلاحق بها خصومه.
وبقطع النظر عن صحة هذه الأقوال ودقتها، فإن التحول الديمقراطي في تونس، كما تمت
صياغته، قد أثبت حقيقتين متناقضتين: حرية التعبير غدت مكسبا راسخا حتى خلا من أي سقف سياسي أو قانوني أو أخلاقي. أهمية الثقافة السياسية التي تمنح ما ينهض عليه الانتقال الديمقراطي من قيم ومعايير، فخارج الضوابط الشكلانية ودور الآليات التي يستند إليها الانتقال الديمقراطي، تظل تلك الثقافة المحرّك اليومي لسلوك النخب والفئات الواسعة. ربما حثّت المناكفات السياسية الحادّة التي جرت على إثر سقوط النظام واعتلاء الإسلاميين سدة الحكم سنة 2012 على استعمال كل الوسائل لإسقاطهم، حتى لو كانت غير أخلاقية: الافتراء، الإشاعة، العنف.. وغيرها من وسائل "قذرة"، برّرت أحيانا تلك الغاية، ما دام الأمر يتعلق بخصم سياسي، إذ يكفي تصنيفه ضمن خانة الإسلام السياسي "حتى يحلّ دمه"، في بعض التعبيرات. لم ننتبه، ونحن ننتشي بذلك القصف الإعلامي الذي يطاول رئيس الجمهورية آنذاك والوزراء ومختلف المسؤولين بمراتب مختلفة، إلى أن الأمر لن يتوقف عند تلك الحدود. وها هي شظايا ذلك تلتهم مجدّدا ما تبقى من مؤسسات الجمهورية: الجيش التونسي الذي نشأ على الحياد منذ الاستقلال، الأمن الجمهوري الذي ظل كذلك، على الرغم من مخالبه التي انغرست في لحم الشعب تجاوزا.
ربما منحت الانتخابات الرئاسية التي ستجري الأحد المقبل التونسيين مشهدا مغايرا عن التي سبقتها سنة 2014، فخارج مخاطر الاستقطاب آنذاك، تمرّ البلاد حاليا باختبار عسير، ندر أن حدث في العالم، إذ سيحبس التونسيون أنفاسهم طويلا هذه المرة. ولن يكون ذلك بسبب انتظار النتائج فحسب، بل ربما لأن رئيسهم المنتخب الذي ستعلن اسمه صناديق الاقتراع قد يكون في السجن، لا بسبب آرائه السياسية، بل بتهم تتعلق بالفساد.
لن يكون سهلا على عموم التونسيين التسليم باستقلالية القضاء ونزاهة العدالة، والجميع يخوض حرب الكل ضد الكل. حفرت الثقافة السياسية التي رذلت السياسة والسياسيين أخدودا عميقا في الثقة. صورة الحاكم على وشك التدحرج إلى حسب ما تعتقد أوساط عديدة، وهو اعتقادٌ يرسّخه الإعلام يوما بعد يوم، وبعض ممارسات النخب الحاكمة. من يفوز بالرئاسة لن يكون ملاكا طبعا، ولكن صور جل هؤلاء منفرّة، وقد يحدث ديمقراطيا أن "تجتمع الأمة على ضلال" تحت خدر المال والإعلام.
وبقطع النظر عن صحة هذه الأقوال ودقتها، فإن التحول الديمقراطي في تونس، كما تمت
ربما منحت الانتخابات الرئاسية التي ستجري الأحد المقبل التونسيين مشهدا مغايرا عن التي سبقتها سنة 2014، فخارج مخاطر الاستقطاب آنذاك، تمرّ البلاد حاليا باختبار عسير، ندر أن حدث في العالم، إذ سيحبس التونسيون أنفاسهم طويلا هذه المرة. ولن يكون ذلك بسبب انتظار النتائج فحسب، بل ربما لأن رئيسهم المنتخب الذي ستعلن اسمه صناديق الاقتراع قد يكون في السجن، لا بسبب آرائه السياسية، بل بتهم تتعلق بالفساد.
لن يكون سهلا على عموم التونسيين التسليم باستقلالية القضاء ونزاهة العدالة، والجميع يخوض حرب الكل ضد الكل. حفرت الثقافة السياسية التي رذلت السياسة والسياسيين أخدودا عميقا في الثقة. صورة الحاكم على وشك التدحرج إلى حسب ما تعتقد أوساط عديدة، وهو اعتقادٌ يرسّخه الإعلام يوما بعد يوم، وبعض ممارسات النخب الحاكمة. من يفوز بالرئاسة لن يكون ملاكا طبعا، ولكن صور جل هؤلاء منفرّة، وقد يحدث ديمقراطيا أن "تجتمع الأمة على ضلال" تحت خدر المال والإعلام.