05 نوفمبر 2024
تيريزا، قدّيسة الظلمات
لم يسبق للعالم المسيحي أن عرف قدّيسةً أو قدّيساً من قبل، وقد حاز على شهرةٍ عالميةٍ خلال حياته، جاب العالم، والتقى كبار الشخصيات، صوّرته الصحافة ووسائل الإعلام العالمية، كما لو كان نجماً هوليوديا من الصفّ الأوّل، وتوّج، فوق هذا كله، بنيله جائزة نوبل للسلام (1979).
إنها الأم تيريزا التي طوّبتها الكنيسة الكاثوليكية أخيرا، الأحد الفائت 4 سبتمبر/أيلول، قدّيسة، بعد تلكؤ السلطات الكنسية في رسمها إثر تطويبها لأسبابٍ عدة، من أهمها نظرتها الإيجابية والنسبية إلى الأديان الأخرى، وذلك بمبادرةٍ من البابا فرنسيس الذي يرى في الراهبة صغيرة القامة تلك تجسيدا لمثاله الأعلى، أي "كنيسة فقيرة من أجل الفقراء".
وبغض النظر عما تمّ تقديمه إثباتاً لقداستها، وهو تحقيقها أعجوبتين، الأولى بشفاء سيدة هندية كانت تعاني من مرض السرطان عام 1998، والثانية بشفاء برازيلي كان يعاني من أورام سـرطانية في الدماغ عام 2008، فإن شخصية الأم تيريزا معقدة بالفعل، لها جوانب مظلمة وأخرى مضيئة، متأرجحةٌ بين ظلمة الشكّ وجحيمه، وفرح اليقين ونعيمه، هي التي اهتمّت عقوداً طويلة بالمنبوذين والفقراء والمرضى واليتامى والأطفال والعجز والمحتضرين، بحيث لُقّبت "أم الفقراء"، وهذا بحد ذاته ممّا يُحسب لها، أكانت قديسة أم لا.
ولدت الأم تيريزا عام 1910 في عائلةٍ ذات أصولٍ ألبانية. دخلت الدير في سن الثامنة عشرة، وأرسلت بعد ذلك إلى كالكوتا لتمارس التعليم، وكان أن أسّست هناك، عام 1950، جمعية "مرسلات المحبة" التي راحت تنمو وتتوسّع، إلى أن صارت تضم أكثر من خمسة آلاف راهبة، يعشن بشكل زاهد جداً ويكرّسن أنفسهن للاعتناء بـ "أفقر الفقراء" عبر العالم. لكنّ المفاجئ والمربك في شخصيتها راهبةً، هو ما كشفته رسائلها السرّية الأربعون التي جُمعت ونشرت عام 2007، في الولايات المتحدة، بعد مرور عشر سنوات على وفاتها، وذلك على الرغم من طلبها أن تمزّق وتُحرق، إنما يبدو أن السلطات الكنسية هي التي حالت دون ذلك.
أكثر من 50 سنة، كانت الأم تيريزا تعاني من فقدان إيمانها، هي التي كتبت تقول: "أنظر ولا أرى، أصغي ولا أسمع"، متسائلة: "أين إيماني، في عمق أعماقي، حيث لا يوجد شيء سوى الفراغ والظلمة... ليس لديّ إيمان". ومع ذلك، لم تؤثر هذه الكشوفات على قرار رسمها قدّيسة، إذ اعتبرت الكنيسة أن فقدها الإيمان ليس خطيئةً، طالما أنه فعل لا إراديّ، وأن عذاب الشكّ، وإن طال وكان عسيراً مستفحلا، إنما هو تعبيرٌ عن محنةٍ صوفيةٍ تعاني منها أرواحٌ استثنائيةٌ ومتقدّمةٌ روحانياً. وهو ما جرى لقدّيسين آخرين من قبلها، وإن كانوا لم يعرفوا هذا المحنة فترةً طويلةً كهذه، فبخلاف الأزمات الروحية العابرة التي عاشها بعضهم، كانت هي تعاني، وبشكل متواصل، نصف قرن، من دون أن يرتبط الأمر بما اعترضها من مشكلاتٍ في عملها أو في أخويتها.
هل كان البؤس الفظيع الذي صادفته الأم تيريزا في أوساط المعوزين ومصابي الأمراض المعدية الذين ينبذهم الآخرون، والمغلوبين على أمرهم من يتامى هذه الأرض، هو الدافع وراء فقدها إيمانها؟ "الشكّ اسم من أسماء الذكاء"، كتب بورخيس، أما عذابات "أمّ كلكوتا" كما كانوا يلقبونها هناك، فهي أشبه بصفعةٍ توجّه لكل من يصوّر الإيمان بطريقةٍ جامدةٍ ومتعالية، مقولَبا سلفاً ليس فيه متّسع لتساؤلٍ أو لاسترابة.
في إحدى رسائلها المؤرخة عام 1982، تقول: "إذا أصبحت يوما قدّيسةً، فسأكون بالتأكيد قدّيسة الظلمات، وسأكون باستمرار غائبة عن السماء". وهي بذلك تقارن ما تعانيه بالجحيم، أي عدم إحساسها بوجود الربّ، أو عدم قدرتها على سماع صوته، وشعورها الهائل بالفراغ. كل هذا خمسين عاماً، فيما لا يرى الآخرون إلا قناعاً يرسم البسمة على وجهها، ويظهرها قوية، ثابتة الإرادة، مؤمنةً كلية بمهمتها الإنسانية كراهبة، وبقدرتها على العطاء.
إنها الأم تيريزا التي طوّبتها الكنيسة الكاثوليكية أخيرا، الأحد الفائت 4 سبتمبر/أيلول، قدّيسة، بعد تلكؤ السلطات الكنسية في رسمها إثر تطويبها لأسبابٍ عدة، من أهمها نظرتها الإيجابية والنسبية إلى الأديان الأخرى، وذلك بمبادرةٍ من البابا فرنسيس الذي يرى في الراهبة صغيرة القامة تلك تجسيدا لمثاله الأعلى، أي "كنيسة فقيرة من أجل الفقراء".
وبغض النظر عما تمّ تقديمه إثباتاً لقداستها، وهو تحقيقها أعجوبتين، الأولى بشفاء سيدة هندية كانت تعاني من مرض السرطان عام 1998، والثانية بشفاء برازيلي كان يعاني من أورام سـرطانية في الدماغ عام 2008، فإن شخصية الأم تيريزا معقدة بالفعل، لها جوانب مظلمة وأخرى مضيئة، متأرجحةٌ بين ظلمة الشكّ وجحيمه، وفرح اليقين ونعيمه، هي التي اهتمّت عقوداً طويلة بالمنبوذين والفقراء والمرضى واليتامى والأطفال والعجز والمحتضرين، بحيث لُقّبت "أم الفقراء"، وهذا بحد ذاته ممّا يُحسب لها، أكانت قديسة أم لا.
ولدت الأم تيريزا عام 1910 في عائلةٍ ذات أصولٍ ألبانية. دخلت الدير في سن الثامنة عشرة، وأرسلت بعد ذلك إلى كالكوتا لتمارس التعليم، وكان أن أسّست هناك، عام 1950، جمعية "مرسلات المحبة" التي راحت تنمو وتتوسّع، إلى أن صارت تضم أكثر من خمسة آلاف راهبة، يعشن بشكل زاهد جداً ويكرّسن أنفسهن للاعتناء بـ "أفقر الفقراء" عبر العالم. لكنّ المفاجئ والمربك في شخصيتها راهبةً، هو ما كشفته رسائلها السرّية الأربعون التي جُمعت ونشرت عام 2007، في الولايات المتحدة، بعد مرور عشر سنوات على وفاتها، وذلك على الرغم من طلبها أن تمزّق وتُحرق، إنما يبدو أن السلطات الكنسية هي التي حالت دون ذلك.
أكثر من 50 سنة، كانت الأم تيريزا تعاني من فقدان إيمانها، هي التي كتبت تقول: "أنظر ولا أرى، أصغي ولا أسمع"، متسائلة: "أين إيماني، في عمق أعماقي، حيث لا يوجد شيء سوى الفراغ والظلمة... ليس لديّ إيمان". ومع ذلك، لم تؤثر هذه الكشوفات على قرار رسمها قدّيسة، إذ اعتبرت الكنيسة أن فقدها الإيمان ليس خطيئةً، طالما أنه فعل لا إراديّ، وأن عذاب الشكّ، وإن طال وكان عسيراً مستفحلا، إنما هو تعبيرٌ عن محنةٍ صوفيةٍ تعاني منها أرواحٌ استثنائيةٌ ومتقدّمةٌ روحانياً. وهو ما جرى لقدّيسين آخرين من قبلها، وإن كانوا لم يعرفوا هذا المحنة فترةً طويلةً كهذه، فبخلاف الأزمات الروحية العابرة التي عاشها بعضهم، كانت هي تعاني، وبشكل متواصل، نصف قرن، من دون أن يرتبط الأمر بما اعترضها من مشكلاتٍ في عملها أو في أخويتها.
هل كان البؤس الفظيع الذي صادفته الأم تيريزا في أوساط المعوزين ومصابي الأمراض المعدية الذين ينبذهم الآخرون، والمغلوبين على أمرهم من يتامى هذه الأرض، هو الدافع وراء فقدها إيمانها؟ "الشكّ اسم من أسماء الذكاء"، كتب بورخيس، أما عذابات "أمّ كلكوتا" كما كانوا يلقبونها هناك، فهي أشبه بصفعةٍ توجّه لكل من يصوّر الإيمان بطريقةٍ جامدةٍ ومتعالية، مقولَبا سلفاً ليس فيه متّسع لتساؤلٍ أو لاسترابة.
في إحدى رسائلها المؤرخة عام 1982، تقول: "إذا أصبحت يوما قدّيسةً، فسأكون بالتأكيد قدّيسة الظلمات، وسأكون باستمرار غائبة عن السماء". وهي بذلك تقارن ما تعانيه بالجحيم، أي عدم إحساسها بوجود الربّ، أو عدم قدرتها على سماع صوته، وشعورها الهائل بالفراغ. كل هذا خمسين عاماً، فيما لا يرى الآخرون إلا قناعاً يرسم البسمة على وجهها، ويظهرها قوية، ثابتة الإرادة، مؤمنةً كلية بمهمتها الإنسانية كراهبة، وبقدرتها على العطاء.