خلال 40 عاماً، بين 1972 و2011، أخرج تيرينس ماليك 5 أفلام فقط، جعلته على قلّتها أحد رموز السينما الأميركية، وأحد أكبر المجدّدين والمتحرّرين من أسلوبها السائد. بعد ذلك، تغيّر الأمر. فخلال أعوام قليلة، أخرج 3 أفلام أخرى، تدور في الزمن المعاصر، على عكس أعماله السابقة، وبات ينغمس في ذاتيّته أكثر، إلى درجة أنّ سرد قصّة لم يعد ممسوكاً. ليس مفاجئاً أنّ هذه الأفلام لم تحظَ بأيّ تقدير يُذكر، إلاّ ربما من محبّيه ومتذوّقي أسلوبه الأكثر إخلاصاً له ولسينماه.
مع روائيّه التاسع، A Hidden Life، يبدو ماليك كأنّه أنهى فعلياً ثلاثيته الذاتية المغلقة، مُقدّماً فيلماً ينتمي ـ كسردٍ قصصي وأسلوب سينمائي ـ إلى أفلامه الخمسة الأولى.
هناك قصّة ممسوكة لا تدور في الزمن المعاصر، كأفلامه الأولى: النمسا، عام 1939، أي في بداية الحرب العالمية الثانية. يبدو المكان جنّةً: خُضرة وجبال وبلدة صغيرة، وقصّة حبّ بين فرانز وزوجته فاني، اللذين لديهما ثلاثة أبناء. هذا قبل أنّ يتغيّر كلّ شيء، مع استدعاء فرانز إلى جيش أدولف هتلر، ما يعني ابتعاده عن "جنّته" وحياته الهادئة، وفي الوقت نفسه يدعوه (الاستدعاء) إلى ارتكاب الشرور، تبعاً لمعتقداته الأخلاقية والدينية. هذا الكابوس لا يتمثّل فقط في "الآخر"، أي هتلر وألمانيا النازية والحرب، بل يؤثّر أيضاً في بلدته "راديغند"، التي يبدو أهلها كمن أصابهم مَسّ جنوني بخطاب القوّة والسلطة، فيصبح فرانز منبوذاً بينهم بسبب رفضه الانخراط في الحرب. وحين يُضطرّ للالتحاق بالجيش في النهاية، يبدأ فصلاً أقصى من معاناته، برفضه القسم بالولاء لهتلر.
اقــرأ أيضاً
يبدو أنّ الأفكار الجوهرية عن الكون لتيرينس ماليك لم تتغيّر على مرّ الأعوام. فمنذ بداية مسيرته، تحديداً في أفلامه الأربعة الأولى، كان يبحث في صراع الطبيعة والفِطرة الإنسانية كما يراها، مُقابل الشرور المختلفة. فيلمه الحربي، الذي أنجزه عام 1998 بعنوان The Thin Red Line، يُعتبر أكثر أفلام الحرب العالمية الثانية خصوصية، لأنّه غير معنيّ بالمعارك والقتال وتفاصيل الكتيبة العسكرية الأميركية، كما في الأفلام الهوليوودية عادة. فماليك مهتمّ بما يتغيّر في الجنود كبشر، وما يتركوه وراءهم، وما تفقده أرواحهم وسط هذا الجنون.
"حياة خفية" ليس فيلماً حربياً كـ"الخيط الأحمر الرفيع"، إذْ لا تظهر الحرب فيه أبداً، بقدر ما يَجثم ثقلها على الجميع خلال ثلاث ساعات (مدّة الفيلم). والمهمّ في هذا كلّه هو فرانز، الذي يبدو ـ تبعاً لسردية ماليك ـ كأنّه المسيح الناطق بكلمة حقّ في لحظة جنون، ويتمسّك بها وإنْ دفع حياته ثمناً لذلك. في بداية الفيلم، يشتكي فنان الكنيسة في البلدة من عدم قدرته على رسم المسيح، إلا بصورة أيقونية وبهالة نور حول رأسه. ومع نهاية الساعات الثلاث، يرسم ماليك مسيحه الخاص، الذي أهدى حياته للإنسانية في لحظةٍ قاسية ممتلئة بالشرور، وهذا يؤكّده أيضاً اقتباسٌ من جورج إليوت في "جينيريك" الختام، عن عالمٍ أقلّ وحْشَة مما يمكن أن يكون، "بسبب هؤلاء الذين عاشوا حياة خفية، ودُفِنوا في قبورٍ لا يزورها أحد".
لا يهتم تيرينس ماليك بتفاصيل تاريخية وسياسية وحربية، فيبدو "حياة خفية" تجسيداً للمعاناة الإنسانية في الحرب والاقتتال والجنون. ليس غريباً أنْ يأتي العَمل في لحظة ترقّب العالم لاحتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة، ولا أنْ يكون ماليك بدأ تصويره بعد مدّة قصيرة من تولّي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية؛ لكن هذه مجرّد تفاصيل زمنية عن الحاضر، تجعل استقبال الفيلم مُختلفاً، لا كتعليقٍ لمخرجه عن حدثٍ أو فترة محدّدين، بل لأنّ معاناة الإنسان ضد الشرور، كما يراها، لا تتغيّر وإنْ تغيّر الزمن.
هناك قصّة ممسوكة لا تدور في الزمن المعاصر، كأفلامه الأولى: النمسا، عام 1939، أي في بداية الحرب العالمية الثانية. يبدو المكان جنّةً: خُضرة وجبال وبلدة صغيرة، وقصّة حبّ بين فرانز وزوجته فاني، اللذين لديهما ثلاثة أبناء. هذا قبل أنّ يتغيّر كلّ شيء، مع استدعاء فرانز إلى جيش أدولف هتلر، ما يعني ابتعاده عن "جنّته" وحياته الهادئة، وفي الوقت نفسه يدعوه (الاستدعاء) إلى ارتكاب الشرور، تبعاً لمعتقداته الأخلاقية والدينية. هذا الكابوس لا يتمثّل فقط في "الآخر"، أي هتلر وألمانيا النازية والحرب، بل يؤثّر أيضاً في بلدته "راديغند"، التي يبدو أهلها كمن أصابهم مَسّ جنوني بخطاب القوّة والسلطة، فيصبح فرانز منبوذاً بينهم بسبب رفضه الانخراط في الحرب. وحين يُضطرّ للالتحاق بالجيش في النهاية، يبدأ فصلاً أقصى من معاناته، برفضه القسم بالولاء لهتلر.
يبدو أنّ الأفكار الجوهرية عن الكون لتيرينس ماليك لم تتغيّر على مرّ الأعوام. فمنذ بداية مسيرته، تحديداً في أفلامه الأربعة الأولى، كان يبحث في صراع الطبيعة والفِطرة الإنسانية كما يراها، مُقابل الشرور المختلفة. فيلمه الحربي، الذي أنجزه عام 1998 بعنوان The Thin Red Line، يُعتبر أكثر أفلام الحرب العالمية الثانية خصوصية، لأنّه غير معنيّ بالمعارك والقتال وتفاصيل الكتيبة العسكرية الأميركية، كما في الأفلام الهوليوودية عادة. فماليك مهتمّ بما يتغيّر في الجنود كبشر، وما يتركوه وراءهم، وما تفقده أرواحهم وسط هذا الجنون.
"حياة خفية" ليس فيلماً حربياً كـ"الخيط الأحمر الرفيع"، إذْ لا تظهر الحرب فيه أبداً، بقدر ما يَجثم ثقلها على الجميع خلال ثلاث ساعات (مدّة الفيلم). والمهمّ في هذا كلّه هو فرانز، الذي يبدو ـ تبعاً لسردية ماليك ـ كأنّه المسيح الناطق بكلمة حقّ في لحظة جنون، ويتمسّك بها وإنْ دفع حياته ثمناً لذلك. في بداية الفيلم، يشتكي فنان الكنيسة في البلدة من عدم قدرته على رسم المسيح، إلا بصورة أيقونية وبهالة نور حول رأسه. ومع نهاية الساعات الثلاث، يرسم ماليك مسيحه الخاص، الذي أهدى حياته للإنسانية في لحظةٍ قاسية ممتلئة بالشرور، وهذا يؤكّده أيضاً اقتباسٌ من جورج إليوت في "جينيريك" الختام، عن عالمٍ أقلّ وحْشَة مما يمكن أن يكون، "بسبب هؤلاء الذين عاشوا حياة خفية، ودُفِنوا في قبورٍ لا يزورها أحد".
لا يهتم تيرينس ماليك بتفاصيل تاريخية وسياسية وحربية، فيبدو "حياة خفية" تجسيداً للمعاناة الإنسانية في الحرب والاقتتال والجنون. ليس غريباً أنْ يأتي العَمل في لحظة ترقّب العالم لاحتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة، ولا أنْ يكون ماليك بدأ تصويره بعد مدّة قصيرة من تولّي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية؛ لكن هذه مجرّد تفاصيل زمنية عن الحاضر، تجعل استقبال الفيلم مُختلفاً، لا كتعليقٍ لمخرجه عن حدثٍ أو فترة محدّدين، بل لأنّ معاناة الإنسان ضد الشرور، كما يراها، لا تتغيّر وإنْ تغيّر الزمن.