في أوائل الثمانينيات، أحسستُ بأني أردُّ لأمجد بعضَ فضلٍ، حين حملتُ له، من هند في بيروت، رسالةً وأشياءَ أخرى، وسلّمتُها له، وهو في عدن بالمدرسة العليا للاشتراكية العلمية...
المدرسةِ التي فرَّ بجِلْدِهِ، وجَلَدِهِ، منها!.
لَكأنّ العقودَ الثلاثةَ التي تمدّدَ عليها شِعرُ أمجد ناصر، هي عقود الامتحان القاسي المديد، إذ جرت مياهٌ كثيرةٌ تحت جسورٍ كثيرة، وانهدمت جسورٌ وقلاعٌ، وزالت ديارٌ، وفُتِحتْ أبوابٌ، وغُلِّقَتْ أخرى...
في هذه العقود، تساوى الغثُّ والسمينُ. والمعرَبُ والمعجَم. والناطقُ بالضادِ وغيرُ الناطق. تساوى محررُ الصفحة والشاعر. الأبيضُ والأسودُ.
وثارتْ عواصفُ كبرى في الفنجان.
المعاركُ الشعرية التي حُسِمتْ في أوروبا وأميركا، منذ قرنَينِ، ثارَ نَقعُها، وخفقتْ بيارقُها عندنا، أمارةً على موقعنا الفعليّ من التاريخ الثقافيّ والشعريّ. لقد كان المشهدُ مؤلماً، وما يزال.
البابُ الوسيعُ الذي كان بإمكان قصيدة النثر أن تفتحه أمام تطور النصّ الشعريّ العربي، انهدَمَ تحتَ سيلٍ عَرِمٍ من تفاهةِ المُسَطَّرِ المجّانيّ، غيرِ ذي العلاقةِ بالحياة وأشيائها، واللغةِ وأفيائِها...
لقد كانت عقوداً للتخلّف العامّ في أمّةٍ تُدفَعُ خارجَ التاريخِ دفعاً.
أين أمجد ناصر من هذا كله؟
أعتقدُ أن الرجل زوى نفسَه عن المشهدِ الفاجع بمجانيةِ الدعوى والمعترَك، وظلَّ يطوِّرُ رؤيتَه وأداتَه، مستقلاًّ بنفسِه، لا يرفع بيرقاً، ولا ينضوي تحت بيرقٍ.
مُقامُه بأرض لندنَ، منحه مسافةً كافيةً وضروريةً، للنظر من بعيدٍ، ولتطويرِ النظر إلى الداخل.
صار يطلّ بموضوعيةٍ على ميراث الشعر في العالَمِ، ويقارِن بين ما نفعله وما يفعله الآخرون من شعراء الأمم الأخرى، معتمِداً مدخلَه الخاصّ والخصوصيّ إلى ما نفعله وما يفعله الآخر.
الفنُّ تعَلُّمٌ دائمٌ، مثل ما هو سفرٌ دائمٌ.
وظلَّ أمجد ناصر يتعلّم.
وبينما شُغِلَ كثيرون ببناء أبراجٍ من الملحِ، ظلَّ الرجل يشتغل بأناةٍ على بناء نصِّه الصعبِ والمختلف.
ونعود، من جديدٍ، إلى مديح لمقهىً آخر، كي نرصد، عبر العقود الثلاثةِ، التحديقَ وقد أضحى أشدَّ شجاعةً، والنتوءاتِ وقد أمست أكثرَ حِدّةً حتى لتكاد تجرح من يلمسُها، والثقةَ بالنفسِ وقد برّرتْ حالَها تبريراً مؤصَّلاً.
يا يحيى.
لن تعرفَ نفسُكَ الراحةَ.
نبوءةُ الأمّ، تكتسبُ معنىً وعُمقاً غيرَ عاديّينِ.
وسيظل أمجد ناصر تحت الظل العجيب لهذه النبوءة. الظل الذي يتنزَّلُ قصائدَ مثل غصون مثقلة بالثمار.
* مقتطف من مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة لأمجد ناصر